إذا رفع المدعي دعواه فإن القاضي بعد أن يطلب من المدعي أن يبين دعواه يسأل المدعي عليه عما يدعيه فإن أقرَّ به ثبت بإقراره الحق الذي يدعيه المدعي وصدر الحكم به. وإذا أنكر المدعي عليه ما يدعيه المدعي طلب القاضي من المدعي أن يقدم بينته التي يثبت بها ما يدعيه، كالشهود العدول مثلاً، فإن قدم البينة ثبتت الدعوي وصدر الحكم بها، وإن عجز المدعي عن تقديم البينة عرض عليه القاضي حق تحليف خصمه اليمين فإن طلب تحليفه وحلف المدعي عليه رد القاضي الدعوي، وإن نكل المدعي عليه عن اليمين اعتبره القاضي مقراً ضمناً وثبت عليه الحق الذي يدعيه المدعي وصدر الحكم به إما بمجرد نكوله أو بعد رد اليمين علي المدعي وحلفه.
فوسيلة إثبات الحق الذي يدعيه المدعي قد تكون إقرار المدعي عليه أو بينة المدعي كشهوده العدول، أو نكول المدعي عليه عن حلف اليمين. وهناك وسائل أو دلائل أخري لإثبات الحق المدعي به وإن كان فيها بعض الاختلاف بين الفقهاء في مدي حجيتها في الإثبات، وهذه الوسائل المختلف فيها هي علم القاضي، القرائن، القسامة، القيافة، القرعة. وعلى هذا سنقسم هذا العنوان إلى تسعة عناوين ونخصص لكل وسيلة من وسائل الإثبات عنواناً علي حدة. ثم نختم بالكلام عن تعارض البينات التي يقدمها المدعي والمدعي عليه وذلك على النحو التالي:
أولاً – الإقرار.
ثانياً – الشهادة.
ثالثاً – اليمين والنكول عنها.
رابعاً – علم القاضي.
خامساً – القرائن.
سادساً – القسامة.
سابعاً – القيافة.
ثامناً – القرعة.
تاسعاً – تعارض النيات.
أوَّلاً
الإقرار
تعريف الإقرار وبيان ماهيته:
الإقرار هو الاعتراف. وعند الفقهاء هو الإخبار بثبوت حق للغير علي نفس المقر ولو في المستقبل. إلا أنه ليس إخباراً محضاً وإنما هو في الحقيقة إخبار من وجه وإنشاء من وجه. وقد يغلب هذا الوجه على ذاك فتترتب آثار معينة علي هذا الأساس، ولهذا لو أقرت امرأة بالزوجية لرجل صح هذا الإقرار وثبتت الزوجية بينهما وترتبت أحكامها وإن لم يوجد شهود وقت الإقرار، لأن الإقرار إخبار من وجه كما قلنا، وهذا الوجه هو الغالب والمنظور إليه في مثالنا هذا، ولو اعتبرناه إنشاءً لما صحَّ لأن النكاح لا يصح بدون شهود.ولو أقرَّ لوارثه بدين وهو مريض مرض الموت لم يصح ذلك لكونه تبرعاً في المرض فيأخذ حكم الوصية، ولا وصية لوارث، وما ذلك إلا لاعتبار الإقرارهنا إنشاءً ولو كان إخباراً لصحَّ مثل هذا الإقرار.
ركن الإقرار:
ركن الإقرار هو اللفظ الدال علي ثبوت الحق للغير علي نفس المقر، نحو أن يقول: لفلان عندي ألف دينار. ويقوم مقام اللفظ ويأخذ حكمه إشارة الأخرس المفهومة، كما لو قيل للأخرس: هل تقر أنك مدين لفلان بكذا مبلغ؟ فيحرك رأسه حركة تدل علي الإقرار والاعتراف. ويقوم مقام اللفظ أيضاً الكتابة مثل أن يكتب بيده بمحضر قوم ثم يقول لهم: اشهدوا عليَّ بما فيه، فذلك لازم له وإن لم يقرأه عليهم. وكذلك لو كتب رسالة لرجل غائب أن لك عليَّ كذا دينار لزمه ذلك، فإن جحده وقامت البينة أنه كتبه لزمه واعتبر ذلك منه إقراراً بما ذكره.
حجية الإقرار:
لا خلاف في أن الإقرار حجة، وقد ثبتت حجيته بالكتاب والسنة، قال تعالي:”يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْعَلَىٰ أَنفُسِكُمْ” … وشهادة الإنسان علي نفسه هو إقراره بالحق الذي عليه. ومن السنة النبوية الشريفة أن النبي ﷺ قبل من ماعز والغامدية إقرارهما بالزنا وعاملهما بموجبه في إقامة الحد عليهما. ولهذا أجمع أهل العلم على أن الإقرار حجة، لاسيما وأن العاقل لا يقر علي نفسه بشيء إلا وهو صادق، ومن ثم كان جانب الصدق في الإقرار أرجح من الكذب فيصدق المقر.
إلا أن الإقرار حجة قاصرة علي المقر لا يتعداه إلي غيره فيؤاخذ به المقر وحده دون سواه لأن المقر لا ولاية له إلا علي نفسه.
حكم الإقرار:
حكم الإقرار ظهور ثبوت المقر به لا إثباته بواسطته ابتداءً، فإذا أقرَّ شخص لزيد بأن له عنده ألف دينار، فمعني ذلك أن هذا الإقرار كشف لنا بأن هذا الدين ثابت في ذمة المقر لزيد في الماضي بسبب من الأسباب الشرعية غير الإقرار كالقرض مثلاً، وليس الإقرار هو الذي أثبت هذا الدين. ومعني ذلك أيضاً أن المقر به يثبت للمقر له بدون حاجة إلى قبول منه ولا تصديق، لأن الإقرار إخبار وهو لا يحتاج في ثبوته إلي تصديق وقبول، إلا أن الإقرار يعتبر في حق الرد إنشاء فيرتد بالرد ويبطل به.
وإذا توافرت في المقر الشروط المطلوبة لزمه ما أقر به من مال أو قصاص ولا ينفعه الرجوع إلا إذا أقر بحد فله الرجوع، كما لو أقرَّ بالزنا والسرقة، ولكن يلزمه مال السرقة لا الحد.
شروط صحة الإقرار:
لصحة الإقرار الذي يترتب عليه حكمه جملة شروط منها ما يتعلق بالمقر، ومنها ما يتعلق بالمقر به، ومنها ما يتعلق بالمقر له، نذكرها فيما يلي:
أولاً- شروط المقر:
وعند الحنفية ومن وافقهم يعتبر من شرب المسكر بطريق محظور بمنزلة الصاحي فيؤاخذ بإقراره إلا في إقراره بالردة أو بارتكابه الحدود التي هي من حقوق الله تعالي الخالصة. وكذلك الوكيل بالطلاق إذا طلق وهو سكران أو أقرَّ بأنه طلق لم يعتبر إقراره.
ثانياً– شروط المقر به:
ويشترط فيه أن لا يكون محالاً عقلاً أو شرعاً. فالمحال العقلي كما لو أقرَّ بأن فلاناً أقرضه مائة دينار في اليوم الفلاني وقد تبين أن فلاناً هذا قد مات قبل هذا اليوم. أو أقرَّ بأنه ابن فلان المدعي مع أنه أكبر منه سناً.
والمحال شرعاً كما لو مات شخص وترك ابناً وبنتاً وأقر الابن بأن الميراث بينهما بالسوية. فهذا إقرار باطل لا يؤاخذ به الابن، لأن الشرع حكم بأن للذكر مثل حظ الانثيين.
ثالثاً – شروط المقر له:
ويشترط في المقر له أن يكون ممن يثبت له الحق فإن لم يكن كذلك لم يصح الإقرار له، كما لو أقرَّ لبهيمة أو لدار بشيء لم يصح إقراره وكان باطلاً لأن الدار أو الدابة لا تملك المال مطلقاً. ويشترط أيضاً إن كان المقر له أهلاً للاستحقاق أن لا يكذب المقر في إقراره.
ادعاء المقر بما يبطل إقراره:
قلنا إن الإقرار لا يصح من المكره وزائل العقل، فمتي أقرَّ بحق ثم ادعي أنه كان مكرهاً لم يقبل قوله إلا ببينة، لأن الأصل عدم الإكراه، إلا أن تكون هناك قرينة على الإكراه كالقيد والحبس فيكون القول قوله مع يمينه. ولو ادعي أنه كان زائل العقل حال إقراره لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل السلامة حتي يثبت غيرها، أي حتي يثبت أنه كان زائل العقل.
ثانياً
الشهادة
الشهادة هي إحدي وسائل إثبات الحق المدعي به، بل قال بعض الفقهاء: “هي آكد الحجج والطرق لأنه لا خلاف في وجوب العمل بها في الحدود والقصاص والأموال والفروج”. ولهذا فإن كثيراً من الفقهاء إذا أطلقوا اسم (البينة) فإنهم يريدون بهذا الاسم (البينة) الشهادة باعتبار أنها أظهر من غيرها في إظهار الحق وإثباته.
وحيث أن مواضيع الشهادة كثيرة ومتشعبة، ولغرض الإحاطة بمعالمها البارزة بسهولة ووضوح فقد رأيت جعل هذا المبحث في مطالب على النحو التالي:
أولاً – تعريف الشهادة وتحملها وأدائها.
ثانياً – شروط الشاهد.
ثالثاً – نصاب الشهادة.
رابعاً – مسئولية الشاهد.
أوَّلاً
تعريف الشاهدة وتحملها وأداؤها
تعريف الشهادة:
الشهادة في اصطلاح الفقهاء إخبار صادق في مجلس الحكم بلفظ الشهادة لإثبات حق علي الغير. وتسمي (البينة) لأنها تبين ما في النفس وتكشف الحق فيما اختلف فيه.
حكم تحمل الشهادة وأدائها:
تحمل الشهادة وأداؤها من فروض الكفاية، لقوله تعالي:“وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَادُعُواْ“. وقوله تعالي:” وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ “. ولأن الشهادة أمانة فيلزم أداؤها كسائر الأمانات. فإن قام بتحمل الشهادة وأدائها اثنان سقط الفرض عن الجميع، وإن امتنع الكل عن ذلك أثموا، وإنما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر وكانت شهادته تنفع، فإن كان عليه ضرر من التحمل أو الأداء، أو كان ممن لا تقبل شهادته لم يلزمه ذلك لقوله تعالي:” ولايُضَارَّكاتبولاشَهِيدٌ“ ولقوله عليه الصلاة والسلام:“ لا ضَررَ و لا ضِرارَ“ ولأن المسلم لا يلزمه أن يضر نفسه لينفع غيره. وإذا كان ممن لا تقبل شهادته لم يجب عليه تحمل الشهادة لأن مقصود الشهادة لا يحصل به. وإذا لم يكن عليه ضرر في تحمل الشهادة، وشهادته تقبل ودعي إلي تحملها وامتنع، فهل يأثم بامتناعه إذا وجد غيره ممن يمكنه تحمل الشهادة؟ وجهان عند الحنابلة:(أحدهما) يأثم لأنه قد تعين عليه تحمل الشهادة بدعائه إلى تحملها ولأنه منهي عن الامتناع لقوله تعالي:“وَ لاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ“. (والوجه الثاني) لا يأثم لوجود غيره فلم يتعين في حقه كما لو لم يدع.
ولا يجوز كتم الشهادة إذا دُعي الشاهد لأدائها من قبل من له علاقة بها، لأن عدم استجابته لأداء الشهادة إذا ما دُعي لها، يعتبر امتناعاً منه عن أداء الشهادة، وهذا الامتناع بمنزلة كتم الشهادة، وكتم الشهادة بلا عذر كبيرة من الكبائر يجب علي المسلم أن لا يقع فيها، وقد روي ابن حجر الهيتمي في زواجره حديثاً، قال عنه إن النبي ﷺ قاله، ورواه عنه الطبراني، وهذا الحديث هو:” مَنْ كَتَمَ شَهَادَةً إذْ دُعِيَ إلَيْهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَ بِالزُّورِ “.
شروط قبول الشهادة وكيفية أدائها:
يشترط لقبول الشهادة جملة شروط هي:
أولاً- توافر شروط معينة في الشاهد سنذكرها فيما بعد.
ثانياً – تقدم الدعوي بالحق المشهود به.
ثالثاً – طلب المدعي أداء الشهادة من الشاهد.
رابعاً – إذن القاضي للشاهد بأداء شهادته.
خامساً – نطق الشاهد بكلمة “أشهد” في مستهل شهادته ولا يقوم غيرها مقامها كقوله “أعلم” أو : “أتحقق”. وقال الفقيه ابن حزم: لا يشترط ذلك، فلو قال الشاهد للقاضي: أنا أخبرك، أو : أنا أقول لك، أو : أنا أعلم، ولم يقل: أشهد، فكل ذلك سواء وكل ذلك شهادة.
سادساً – أن يقتصر الشاهد في شهادته علي ما ادعاه المدعي.
سابعاً- أن يؤدي الشاهد ما تحمله من الشهادة مصرحاً به بلفظه، فلا يقبل من الشاهد أن يقول: أشهد بمثل ما شهد به هذا الشاهد، بل لابد من تصريحه هو بما تحمله وقت أدائه الشهادة.
ثامناً- أن ينقل الشاهد ما سمعه أو رآه إلي القاضي من إقرار أو بيع أو إتلاف أو قبض أو غير ذلك، لا أن يشهد بما يستنتجه هو مما رآه فيقول مثلاً على سبيل الاستنتاج: أعتقد أو أرجح أن المدعي عليه بناء علي ما رأيت أو سمعت أنه مدين للمدعي بمبلغ كذا. لأن تكييف الوقائع وما يستنتج منها وما يترتب عليها من آثار وأحكام، كل ذلك متروك لتقدير القاضي واجتهاده لأنه من صميم وظيفته القضائية، وليس ذلك من واجب الشاهد، لأن واجب الشاهد نقل ما رأي وسمع من وقائع إلى القاضي بناء علي طلب المدعي.
تاسعاً – تفريق الشهود وتحليفهم. فقد قال الفقهاء: إذا ارتاب القاضي بالشهود، فله أن يفرقهم ويسأل كل شاهد عن شهادته علي حدة، فإن اختلفوا سقطت شهادتهم، وإن اتفقوا حكم بها القاضي إن عرف عدالتهم وإلا بحث عن عدالتهم قبل أن يحكم بشهادتهم. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين الشهود وسمع كل شاهد علي حدة.
ويبدو لي أن الراجح دائماً هو سماع شهادة الشهود متفرقين لأن ذلك أحوط، والقاضي ملزم بالأخذ بالأحوط. أما تحليف الشهود، فقد حكي الفقيه ابن حزم الأندلسي القول بتحليف الشهود عن ابن وضاح وقاضي الجماعة في قرطبة، وقال ابن حزم أيضاً وروي عن محمد بنوضاح أنه قال: أري لفساد الناس أن يحلف الحاكم الشهود. وقال ابن القيم: وإذا كان للحاكم أن يفرق الشهود إذا ارتاب بهم فأولي أن يحلفهم إذا ارتاب بهم.
والراجح لي تحليف الشاهد دائماً لأن التحليف يحمل الشاهد علي قول الصدق ويجعله يتحرج من كتمان الحقيقة، وأن يكون التحليف قاعدة ثابتة يلتزم بها القضاة جميعاً سواء ارتابوا بالشهود أو لم يرتابوا.
هذا وأن القاضي يسمع شهادة الشهود سواء حضر الخصم أو لم يحضر، إلا أنه إذا حضر في الجلسة التالية للمرافعة قرأ عليه القاضي شهادات الشهود، فأن كان له قول أو مطعن في شهاداتهم بيَّنه ونظر فيه القاضي، وإذا طلب الخصم إعادة سماع الشهادة بمحضره لم يجبه القاضي إلى طلبه لأنه كان عليه أن يحضر، وحيث أنه لم يحضر فلا حق له في إعادة شهادة الشهود ليسمعها منهم مباشرة.
فإذا أدلي الشهود بشهاداتهم كتبها القاضي أو أمر بكتابتها، فيكتب شهادة كل شاهد مع كتابة اسمه ولقبه وقبيلته ومسكنه ومسجده الذي يصلي فيه وتاريخ شهادته ثم يرفع ذلك ويحفظه في إضبارة الدعوي، أو في رقعة الدعوي.
هذا ويلاحظ هنا أن شهادة الشهود إذا كانت صحيحة وعرف القاضي عدالة الشهود، فإنه يتوجه إلي المشهود عليه ويقول له: قد شهد عليك الشهود بكذا وكذا فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهم فبينه لي، فإن سأل الإمهال أمهله القاضي اليوم واليومين والثلاثة، فإن جاء بعد المهلة بما يجرح شهادة الشهود قام القاضي بالتحقيق عن هذا الجرح وإن لم يأت بما يقدح بشهادتهم أو بعدالتهم حكم القاضي عيه لأن الحق قد وضح وانكشف علي وجه لا إشكال فيه فيجب إصدار الحكم وعدم تأخيره.
شهادة الحسبة:
قلنا إن الشاهد يؤدي شهادته بعد تقدم الدعوي بالحق المشهود به، واستدعاء المدعي أداء الشهادة من الشاهد. إلا أن هناك حالات يتقدم فيها الشاهد ابتداء ومن تلقاء نفسه لأداء شهادته دون تقدم أو سبق دعوي ولا طلب من أحد لأداء هذه الشهادة، وهذا النوع من الشهادة الجائزة هي التي تسمي (بشهادة الحسبة) حيث يكون الشاهد مدعياً كما هو شاهد في نفس الوقت.
وقد عرف الفقهاء شهادة الحسبة بأنها عبارة عن أداء الشاهد شهادة تحملها ابتداءً لا بطلب طالب ولا بتقدم دعوي مدع. ومعني حسبة، أي احتساباً لله تعالي.
الأمور التي تقبل فيها شهادة الحسبة:
تقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالي مثل حد الزنا والشرب والسرقة وقطع الطريق، كما تقبل في الزكاة والعتاق والوصية للفقراء والوقف عليهم وعلي المصالح العامة، كما تقبل شهادة الحسبة في الطلاق والعدة وحرمة المصاهرة والرضاع والخلع.
الشهادة علي الشهادة:
والمقصود بالشهادة علي الشهادة، أن يشهد شاهد أن غيره يشهد بالحق الفلاني.وهذه الشهادة جائزة بإجماع العلماء في الأموال وما يقصد به المال، ولا تقبل في الحدود، وهذا قول النخعي والشعبي والحنابلة والحنفية. وقال الإمام مالك والشافعي في قول وأبو ثور: تقبل في الحدود وفي كل حق لأن ذلك يثبت بشهادة الأصل فيثبت بالشهادة علي الشهادة في المال وغيره. وردَّ المانعون بأن الحدود مبنية علي الترو والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار. والشهادة على الشهادة فيها شبهة، فإنه يتطرق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصلِ، وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة علي شهود الأصل فوجب أن لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات.
أما القصاص فظاهر كلام الإمام أحمد وهو المذهب عند الحنابلة أنها لا تقبل في القصاص لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات وهذا قول أبي حنيفة. وقال مالك والشافعي وأبو ثور تقبل لأن القصاص حق لآدمي لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به فأشبه الأموال. أما ما عدا الحدود والقصاص والأموال كالنكاح والطلاق فإنها تقبل فيها.
شروط الشهادة علي الشهادة:
لجواز الشهادة علي الشهادة جملة شروط هي:
الشرط الأول– أن تتعذر شهادة الأصل لموت أو غيبة أو مرض أو حبس أو خوف من سلطان وما أشبه ذلك، وبهذا قال الحنابلة ومالك وأبو حنيفة والشافعي. وذهب الإمام محمد صاحب أبي حنيفة إلي جوازها مع القدرة علي شهادة الأصل قياساً على الرواية وأخبار الديانات. واحتج الأولون بأن سماع شهادة الأصل أحوط للشهادة لأن سماعها من الأصل معلوم، وصدق شاهدي الفرع مظنون، والعمل باليقين مع إمكانه أولي من اتباع الظن. كما أن في شهادة الفرع ضعفاً ليس في شهادة الأصل، إذ يرد إليها احتمالات:احتمال غلط شاهدي الأصل، واحتمال غلط شاهدي الفرع فينبغي أن لا تقبل إلا عند عدم شاهدي الأصل كسائر الأبدال. كما أن الشهادة الأصل تثبت نفس الحق، وهذه تثبت الشهادة عليه.
الشرط الثاني – أن تتحقق شروط قبول الشهادة كالعدالة وغيرها في كل واحد من الأصل والفرع لأن الحكم مبني علي الشهادتين جميعاً فاعتبرت الشروط في كل واحد منهما. هذا ويجوز أن يعدل شاهدا الفرع شاهدي الأصل ويقوم القاضي بالبحث عن عدالة شاهدي الفرع إذا لم يعرفهما.
الشرط الثالث – أن يشهد علي شهادة كل أصل رجلان أو رجل وامرأتان، لأن شهادة كل أصل حق يراد إثباته أمام القاضي، ولا يثبت الحق أمامه بدون نصاب شهادة كامل. ويجوز أن يكون شاهدا الفرع شاهدين علي شهادة كل أصل.
الشرط الرابع – أن يقول الأصل للفرع: أشهدْ على شهادتي، لأنه نائب عنه فلابد من الإنابة والأمر بالشهادة على شهادته.
الشرط الخامس – أن يعين شاهدا الفرع شاهدي الأصل ويسميانهما وفائدة هذا الشرط لإمكان البحث عن عدالتهما وليتمكن المشهود عليه من الطعن فيهما إن كان عنده مطعن في عدالتهما.
الشهادة علي النفي:
الشهادة تنبئ عن المشاهدة المترتب عليها العلم بالمشهود به، وهذا لا يحصل بالنفي، ومن ثم كان الأصل أن الشهادة علي النفي لا تقبل، ولكن إن كان النفي شرطاً لإثبات المشروط جازت الشهادة عليه كما لو ادعي أنه وارث الميت فلان فقالت الشهود إنه لا وارث وأرث له سواء قبلت هذه الشهادة وإن قامت علي النفي وهو عدم وجود وارث للميت غير المدعي، لأنها في الحقيقة لإثبات الإرث له بواسطة إثبات شرطه، وهكذا الحكم في كل شهادة قامت على نفي هو شرط لثبوت شيء آخر فإنها تقبل لأنها في الحقيقة للإثبات، والعبرة للمقاصد لا للألفاظ. وكذلك إذا تواتر النفي جازت الشهادة عليه كما لو شهد بأن فلاناً كان في البصرة في اليوم الفلاني ولم يكن في بغداد وثبت ذلك بالتواتر قبلت الشهادة عليه لأن ما ثبت بالتواتر يكون ثابتاً بالضرورة، والثابت بها لا يدخله الشك، وإن لم يتواتر النفي لا تقبل الشهادة عليه.
الجعل علي الشهادة:
قال الحنابلة: إذا لم تكن للشاهد حاجة إلى أن يأخذ عوضاً مالياً علي شهادته فليس له أخذه علي أداء الشهادة لأنه أداء فرض. وإن لم تكن له كفاية، ولم يتعين عليه أداء الشهادة حلَّ له أخذ العوض علي أداء شهادته. وإذا تعينت عليه الشهادة وكان محتاجاً احتمل جواز أخذ الجعل (أي الأجرة أو العوض المالي)، واحتمل عدم الجواز لئلا يأخذ العوض عن أداء فرض عين وبهذا الاحتمال أخذ الإمام الشافعي.
ثانياً
شروط العقد
تعداد شروط الشاهد:
يشترط في الشاهد لقبول شهادته، مع الشروط الأخري للشهادة، أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً غير متهم في شهادته، بصيراً متكلماً، وفي بعض هذه الشروط اختلاف بين الفقهاء، نبينه عند شرح هذه الشروط.
شرح شروط الشاهد:
أولاً- أن يكون الشاهد بالغاً عاقلاً، فلا تقبل شهادة المجنون بإتفاق الفقهاء لأنه لا يعقل، كما لا تقبل شهادة الصبي الذي لم يبلغ عند جمهور الفقهاء. وقال الإمام مالك، وهو رواية عن الإمام أحمد: تقبل شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم إذا شهدوا قبل تفرقهم عن الحالة التي تجارحوا عليها لأن الظاهر صدقهم وضبطهم، فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم لأنه يحتمل أن يلقنوا، إلا أن يكونوا قد اشهدوا الشهود العدول علي شهادتهم قبل أن يتفرقوا. واحتج من اشترط البلوغ بأن الشهادة مقبولة في كل شيء بالآية الكريمة:” وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ” والآية الكريمة:” وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ” وقوله تعالي:”و لا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَ مَنْ يكتمها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ”. فأخبر تعالي أن الكاتم لشهادته آثم، والصبي لا يأثم فدلَّ علي أنه لا يصلح أن يكون شاهداً، ولأن الصبي لا يخاف من مآثم الكذب فلا يمتنع به عنه فلا تحصل الثقة بقوله، ولأن الصبي لا يقبل إقراره علي نفسه ومن لا يقبل إقراره علي نفسه لا تقبل شهادته علي غيره كالمجنون.
ثانياً- أن يكون عالماً بما شهد به:
ذلك أن الشهادة لا تجوز إلا بما علمه الشاهد، قال تعالي:”إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ” وقال تعالي:”وَ لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦعِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَ ٱلْبَصَرَ وَ ٱلْفُؤَادَ كُلُّأُ أوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا” ومدرك العلم الذي تقع به الشهادة غالباً الرؤية والسماع، والذي يقع بالرؤية هو الأفعال كالإتلاف وشرب الخمر، وأما ما يحصل بالسماع فمثل العقود وغيرها من الأقوال فيحتاج الشاهد إلي أن يسمع الشاهد كلام المتعاقدين أو كلام المتكلمين ولا يشترط رؤيتهم إذا عرف أصواتهم يقيناً وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن الشهادة لا تجوز من الشاهد حتي يشاهد المشهود عليه.
وقد يكون مسند علم الشاهد ما يعلمه بالاستفاضة، أي فيما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في القلب كما ذكره الفقيه الخرقي الحنبلي وهذا يقتضي أن تكثر به الأخبار ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم، إلا أن بعض الحنابلة قال إنه يكفي أن يسمع الشاهد من اثنين عدلين ويسكن قلبه ويطمئن إلى خبرهما لأن الحقوق تثبت بقول اثنين.
وقد أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالاستفاضة في النسب والولادة، إلا أنهم اختلفوا فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة فيما عدا النسب والولادة، فعند الحنابلة ومن وافقهم تجوز الشهادة بالاستفاضة علي النكاح والملك المطلق والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية، واحتج الحنابلة لقولهم بأن الأشياء التي ذكروها وقالوا عنها: تجوز فيها الشهادة بالاستفاضة، هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتهم أو مشاهدة أسبابها فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة كالنسب. وقال الإمام مالك: ليس عندنا من يشهد علي أحباس رسول اللهﷺ إلا بالسماع. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالي: لا تقبل الشهادة بالاستفاضة إلا في النكاح والموت.
ثالثاً – أن يكون الشاهد مسلماً:
ويشترط في الشاهد أن يكون مسلماً إذا كان المشهود عليه مسلماً وهذا باتفاق الفقهاء فيما عدا وصية المسلم في السفر حيث أجاز الحنابلة أن يشهد غير المسلم علي وصية المسلم في السفر إذا لم يوجد شهود مسلمون لقوله تعالي:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّن كُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ” . وعلل الحنابلة هذا الجواز بهذا النص للضرورة، وبقولهم قال جمهور فقهاء أهل الحديث، كما قال به الإمام الثوري والأوزاعي والظاهرية. وقول هؤلاء هو الصحيح، حتي أن الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالي قال:” إذا حكم الحاكم بعدم جواز شهادة غير المسلم علي وصية المسلم في السفر فإن حكمه يجب أن ينقض لمخالفته لنص الكتاب بتأويلات غير مقبولة”. وقال ابن تيمية أيضاً، كما ينقل عنه تلميذه ابن القيم: “وقول الإمام أحمد: قبول شهادتهم في هذا الموضع هو ضرورة، يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضراً أو سفراً”.
والذي أميل إلى ترجيحه أن شهادة غير المسلم علي المسلم تجوز في كل ضرورة في حضر أو سفر ولا تقتصر الضرورة علي وصية المسلم في السفر، ويترك للقاضي تقدير الضرورة اليت تجوز فيها شهادة غير المسلم علي المسلم.
أما إذا كان المشهود عليه غير مسلم فإن شهادة غير المسلم تجوز عليه عند الحنفية ومن وافقهم، وقال غير هؤلاء من الفقهاء لا تجوز شهادة غير المسلم عليه، والراجح قول الحنفية.
رابعاً- أن يكون الشاهد عدلاً:
والعدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله، أما في الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم علي صغيرة وأن يجتنب كل ما يخل بالمروءة. وقال بعض المالكية: من كان أكثر حاله الطاعة وهي الغالب من أحواله وهو مجتنب الكبائر محافظ علي ترك الصغائر فهو العدل. وقال الفقيه ابن جزم الظاهري: العدل هو من لم تعرف له كبيرة ولا مجاهرة بصغيرة، والكبيرة هي ما سماها رسول الله ﷺ كبيرة أو ما جاء فيه الوعيد، والصغيرة ما لم يأت فيه الوعيد.
كيف تعرف عدالة الشاهد:
إذا علم القاضي عدالة الشاهد قبل شهادته. وإذا علم أنه فاسق لم يقبل شهادته، وإذا طعن المشهود عليه بشهادة الشاهد وجرحه بمفسق وأثبت طعنه وتجريحه ردَّ القاضي شهادته، وإذا عجز عن إثبات طعنه وجب علي القاضي أن يقوم بالتحري والبحث عن عدالة الشاهد، فإذا تبين له بعد البحث والتحري أنه عدل قبل شهادته وإن تبين له أنه غير عدل ردَّ شهادته.
وإذا كان الشاهد مستور الحال لا يعرفه القاضي عدلاً ولا فاسقاً ولم يطعن فيه المشهود عليه، فما السبيل إلي معرفة عدالته لقبول شهادته؟ خلاف بين الفقهاء نوجزه كما يلي:
أولاً – ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالي إلى أن المسلم المستور شهادته مقبولة بلا حاجة إلى بحث عن عدالته وحجته أنه مسلم، والظاهر من حال المسلم العدالة، ولهذا قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي لله عنه: “المسلمون عدول بعضهم على بعض” فيجوز البناء علي هذا الظاهر ما لم يطعن الخصم في شهادته وعدالته، وما لم تتعلق شهادته بالحدود والقصاص لأن هذه يحتاط لها وتندرئ بالشبهات فيجب التحري عن عدالته في هذه الحالة، وهذا البحث عن عدالته هو ما يعرف بتزكية الشهود كما سنبينه فيما بعد.
ثانياً- وذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة إلي وجوب تزكية الشاهد المستور حتي تثبت عدالته أو فسقه سواء كانت شهادته تتعلق بحدّ أو قصاص أو غيرهما وسواء طعن الخصم في شهادة الشاهد وعدالته أو لم يطعن، لأن التحري أقوي من الاكتفاء بالظاهر وأولي منه لما فيه من الاحتياط، ولقوله تعالي:” مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ” ولا نعلم أنه مرضي حتي نعرفه عدلاً أو نتحري عن عدالته فيظهر لنا أنه عدل. وأما قول سيدنا عمر رضي الله عنه:”المسلمون عدول” فالمراد به ان الظاهر العدالة ولا يمنع ذلك من وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة.
إجراءات تزكية الشاهد:
قلنا إن جمهور الفقهاء يوجبون البحث والتحري عن عدالة الشاهد الذي لا يعرف القاضي عدالته ولا فسقه، وهذا التحري يطلق عليه الفقهاء تزكية الشهود كما قلنا. ويتم بإجراءات معينة خلاصتها أن القاضي بعد أن يسمع شهادة الشهود يأمر كاتبه بكاتبة أسمائهم وكناهم ونسبهم ويرفعون في النسب بما يتميزون عن غيرهم، ويكتب صنائعهم وموضع مساكنهم ومساجدهم التي يصلون فيها حتي يمكن السؤال من جيرانهم وأهل محلتهم وسوقهم ومسجدهم. ويكتب أيضاً ألوانهم وما يتميزون به من طول أو قصر أو بياض أو سواد، كل ذلك علي سبيل الاحتياط ودفعاً للالتباس ويكتب أيضاً اسم المشهود له والمشهود عليه وقدر الحق المدعي به، وإنما يكتب ذلك لئلا يوجد مانع من قبول شهادة الشاهد للمشهود له أو قبولها على المشهود عليه ولو كان الشاهد عدلاً، ويذكر قدر الحق المدعي به لأنه قد يكون الشاهد مقبول الشهادة في الحق اليسير دون الجسيم. ويكتب كل ذلك في رقاع ويعطي لكل واحد من المزكين أو من يسمون بـ :”أصحاب المسائل” أو “أرباب المسائل” وهؤلاء جماعة عند القاضي يثق بهم وهم محل أمانته وثقته ويقومون بالتحري عن عدالة الشهود. وقد قال الفقهاء: ينبغي أن يكون هؤلاء (أي أصحاب المسائل) غير معروفين لئلا يقصدهم الناس بهدية أو رشوة، وأن يكونوا أصحاب عفاف وذوي عقول وافرة أبرياء من الشحناء والبغضاء، غايتهم الوقوف علي الحقيقة، لا يميلون إلي شاهد ولا إلي مشهود له أوعليه، ثقاة أمناء، أصحاب ورع ودين.
وبعد أن يتسلم أصحاب المسائل الرقاع من القاضي يذهبون ويسألون عن عدالة الشهود سراً ممن يعرفهم من جيرانهم أو من أهل سوقهم ومحلتهم أو مسجدهم، فإذا رجع هؤلاء فأخبر اثنان منهم بعدالة الشاهد قبل القاضي شهادته وإن أخبراه بجرحه وعدم عدالته رد شهادته، وإن أخبره أحدهما بالعدالة والآخر بالجرح بعث آخرين فإن انضم واحد من هؤلاء إلى جانب التعديل قبل شهادة الشاهد وإن انضم إلى جانب الجرح ردَّ شهادة الشاهد، وإنما لم يكتف بتعديل الواحد أو جرحه لأن النصاب المقبول في الجرح والتعديل للشاهد اثنان، لأنه شهادة، ونصاب الشهادة اثنان ولذلك لابد فيه من لفظ “أشهد” وهذا مذهب الحنابلة والشافعي ومحمد بن الحسن. وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه يقبل الجرح والتعديل من واحد، وهذا مذهب أبي حنيفة باعتبار أن ما يقوله المزكي هو خبر لا شهادة فيقبل من الواحد كالرواية وبدون لفظ الشهادة.
وفائدة التزكية السرية التي ذكرناها هو التباعد عن هتك المسلم وصون حال المزكي. ومتي أسفرت النتيجة عن جرح الشاهد، قال القاضي للمدعي: هات شاهداً آخراً ولا يقول له إن الشاهد قد جرح. فإن فرغ القاضي من التزكية السرية فإن شاء اكتفى بها وإن شاء جمع معها التزكية العلنية فيجمع القاضي بين المزكي والشاهد ويسأل المزكي عن الشاهد فإذا قال عنه إنه عدل مقبول الشهادة فقد زكاه. ويجوز أن يكون المزكي في العلن هو المزكي في السر إن توافرت فيه شروط الشهادة كما يجوز أن يكون غيره.
وإذا شهد عند القاضي مجهول الحال فقال المشهود عليه هو عدل فهل يكفي هذا القول عند القاضي ولا يلزمه البحث عن عدالته أم لابد من التحري والبحث؟ قولان عند الفقهاء:
القول الأول – يقبل عند القاضي شهادته لأن البحث عن شهادته لحق المشهود عليه وقد اعترف بعدالة الشاهد فيأخذ القاضي باعترافه وإقراره ولا يلزمه البحث عن عدالته.
القول الثاني – لابد من البحث عن عدالته لأن اعتبار العدالة في الشاهد من حق الله تعالي وهي لا تثبت بقول الواحد ولو كان هو المشهود عليه فلابد من التحري والبحث وإثباتها بشهادة اثنين. والدليل علي أن العدالة من حق الله تعالي أن الخصم لو رضي أن يحكم عليه القاضي بشهادة فاسق لم يجز الحكم بهذه الشهادة.
هل تجوز شهادة الفاسق في بعض الأحيان:
قلنا إن الشرط في قبول الشهادة أن يكون الشاهد عدلاً، وبينا مفهوم العدالة وطريقة معرفة وجودها في الشاهد، ونسأل هنا: هل يجوز قبول شهادة الشاهد الفاسق في بعض الأحيان أو في بعض الحالات؟ والجواب علي ذلك كما يلي:
إن إسقاط شهادة الشاهد الفاسق إنما كانت لكون الفسق مظنة كذب الفاسق لا سلب أهليته، فإذا علم كونه صادقاً فقد انتفت مظنة كذبه التي هي العلة في منع قبول شهادته، وإنما يعلم كونه صادقاً مع فسقه بوجود قرائن تدل علي ذلك وتبعث على الاطمئنان علي أن صادق. ففي هذه الحالة ينبغي قبول شهادته. أما تقدير القرائن الدالة علي صدق الفاسق فأمر متروك إلى القاضي حسب تقديره واجتهاده. فيكون الفرق بين الفاسق المقبول الشهادة للقرائن الدالة علي ترجيح جانب الصدق فيه وبين الشاهد العدل الثابتة عدالته هو أن الفاسق لا تقبل شهادته إلا بالقرائن الدالة على صدقه، بينما العدل الثابتة عدالته تقبل شهادته بلا قرائن. هذا وأن ما قلناه نعتبره سائغاً، وقولاً مقبولاً، في حالة غلبة الفسق علي الناس وتعذر إثبات عدالة الشاهد.
الشرط الخامس: عدم اتهام الشاهد في شهادته. فيجب أن لا يكون الشاهد متهماً في شهادته بأن يقع الشك في صحة شهادته علي وجه يرجح كذبه. ومبعث هذا الشك والارتياب أسباب كثيرة، منها:
العداوة:
إذا كان الشاهد عدواً للمشهود عليه امتنع قبول شهادته في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأحمد بن جنبل. وقال أبو حنيفة إن العداوة لا تخل بالعدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة. وعند الظاهرية، إذا لم تخرجه عداوته للمشهود عليه إلي ما لا يحل فشهادته جائزة عليه لأنه عدل، وإن كانت عداوته له تخرجه إلى ما يحل فهي جرحة فيه ترد شهادته لكل أحد وفي كل شيء. وحجة الظاهرية قوله تعالي:” وَلَايَجْرِمَنَّكُمْشنئانقومأَلَّاتعدلوااعدلواهوأقربلِلتَّقْوَى” فالله سبحانه وتعالي في هذه الآية يأمرنا بالعدل علي أعدائنا، فصح أن من حكم بالعدل على عدوه أو له فشهادته مقبولة.
واحتج الجمهور بالحديث الشريف “لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر علي أخيه” والغمر الحقد، ولأن العداوة تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة، وتخالف الصداقة فإن في شهادة الصديق لصديقه بالزور نفعاً لغيره بمضرة نفسه، وشهادة العدو علي عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا، ولهذا لو شهد العدو لجازت هذه الشهادة لعدم التهمة. ويلاحظ هنا أن العداوة المانعة للشهادة هي العداوة الدنيوية لا العداوة الدينية، ولهذا جازت شهادة المسلم علي غير المسلم لأن الدين يمنع من شهادة الزور.
جلب المنفعة:
ومن أسباب اتهام الشاهد علي وجه يترجح عدم صدقه، جلب المنفعة للشاهد بشهادته أو دفع ضرر عنه بهذه الشهادة، مما يجعل الشك قائماً في شهادته وبالتالي عدم قبولها.
ومن أمثلة ذلك شهادة الدائنين لمدينهم المفلس بدين له على الغير، وشهادتهم لمدينهم الميت بدين أو مال له على الغير، وكشهادة الكفيل للمكفول عنه بقضاء الحق أو الإبراء منه، فهذا وأشباهه لا تقبل الشهادة فيه لأن الشاهد به منهم لما يحصل بشهادته من نفع نفسه ودفع الضرر عنها فيكون شاهداً لنفسه.
وقد عدَّ الإمام مالك شهادة الصديق لصديقه من أنواع الشهادة المردودة لما فيها من تهمة جلب المنفعة، وقد ردَّ على هذا القول الفقيه ابن قدامة الحنبلى وقال: تقبل شهادة الصديق لصديقه في قول عامة أهل العلم.
وعند الحنفية والأوزاعي لا تقبل شهادة الأجير لمستأجره في شيء وإن كان عدلاً استحساناً، وقال الثوري: هي جائزة مقبولة إذا كان لا يجر إلي نفسه نفعاً بهذه الشهادة.
وعند الظاهرية تقبل شهادة الصديق لصديقه والأجير لمستأجره لأن المنظور إليه عندهم هو عدالة الشاهد فإن كان عدلاً قبلت شهادته على الآخرين بغض النظر عن الصداقة وعلاقة القربي أو الاستئجار أو غير ذلك من العلائق التي اعتبراها غير الظاهرية موانع من قبول الشهادة بحجة التهمة بسبب هذه الموانع.
الشركة والوكالة:
لا تقبل شهادة الشاهد للمشهود له إذا كان شريكاً له أو وكيلاً له فيما هو شريك فيه أو وكيلاً فيه. فإن كانت شهادتهما في غير ما ذكرنا قبلت لانتفاء التهمة.
القرابة:
لا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل، ولا شهادة الولد وإهنه سفل لهما وإن علوا، وهذا مذهب مالك والشافعي والحنفية وهو ظاهر مذهب الحنابلة، خلافاً للظاهرية حيث يجيزون ذلك ما دام الشاهد عدلاً كما أشرنا في الفقرة السابقة.
ويلاحظ هنا أن شهادة الأخ لأخيه جائزة عند جماهير أهل العلم كما جاء في المغني لابن قدامة الحنبلي، ولا يصح القياس علي الوالد والولد لأن بينهما بعضية وقرابة قوية بخلاف الأخ.
ويلاحظ هنا أيضاً أن شهادة أحد الوالدين على ولده مقبولة، نص على ذلك الإمام أحمد بن حنبل، وهذا قول عامة أهل العلم لقوله تعالي:” كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَ لَوْعَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ” ولأنه لا تهمة في مثل هذه الشهادة فوجب أن تقبل كشهادة الأجنبي، بل هي أولي.
الزوجية:
فلا تقبل شهادة الزوج لزوجته ولا المرأة لزوجها، وبهذا قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة. وأجازها أبو ثور وشريح وغيرهما. وقال الثوري وابن أبي ليلي تقبل شهادة الزوج لزوجته لأنه لا تهمة في حقه، ولا تقبل شهادتها له لأن يساره وزيادة حقها من النفقة تحصل بشهادتها له بالمال فهي لذلك متهمة بشهادتها له. واحتج المانعون بأن كل واحد منهما يرث الآخر من غير حجب وينبسط في ماله عادة، فكان في شهادة كل منهما للآخر منفعة له.
وعند الظاهرية تجوز الشهادة بين الزوجين، لكل واحد منهما للآخر أو عليه ما دام عدلاً.
سادساً – السلامة من بعض العاهات:
ويشترط في الشاهد أن يكون بصيراً، فإن كان أعمي لم تقبل شهادته عند أبي حنيفة والشافعي، وحجتهما أن الأصوات تتشابه فلا يحصل اليقين بمن يشهد عليه الأعمي. وأجاز شهادة الأعمي مالك وأحمد وابن أبي ليلي، وحجتهم أن الأٌقوال مدركها السمع، والأعمي يسمع، إلا أنه لا يجوز له أن يشهد إلا إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه بيقين. وأجاز شهادة الأعمي أيضاً فقهاء المذهب الظاهري.
واشترط الحنابلة أن لا يكون الشاهد أخرساً فإن كان لا تقبل شهادته لعدم اليقين بدلالة إشارته. وإنما قبلت إشارته في شئونه الخاصة به للضرورة، ولا ضرورة هنا لأداء الشهادة علي الغير. وقال مالك والشافعي: تقبل شهادة الأخرس ما دامت إشارته مفهومة الدلالة. وهذا ما نرجحه لأن الحاجة قد تدعو لشهادة الأخرس كما في حالة عدم وجود غيره يقوم بتحمل الشهادة وأدائها.
Cookie | Duration | Description |
---|---|---|
cookielawinfo-checkbox-analytics | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Analytics". |
cookielawinfo-checkbox-functional | 11 months | The cookie is set by GDPR cookie consent to record the user consent for the cookies in the category "Functional". |
cookielawinfo-checkbox-necessary | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookies is used to store the user consent for the cookies in the category "Necessary". |
cookielawinfo-checkbox-others | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Other. |
cookielawinfo-checkbox-performance | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Performance". |
viewed_cookie_policy | 11 months | The cookie is set by the GDPR Cookie Consent plugin and is used to store whether or not user has consented to the use of cookies. It does not store any personal data. |