إن رفع الدعوي إلى القاضي ونظره فيها والترافع أمامه بشأنها إلى أن يصدر الحكم المناسب بها، كل ذلك يجري بحسب قواعد وضوابط معينة يلتزم بها أصحاب الشأن في الدعوي كما يلتزم بها القاضي نفسه. وهذه القواعد والضوابط تسمي عادة باسم” أصول استماع الدعوي” أو “أصول المرافعات” أو ” قواعد المرافعات” أو “أصول التقاضي” أو “قواعد التقاضي” وهذه الأسماء ونحوها وإن تعددت فلها مسمي واحد هو مجموعة القواعد والضوابط والأصول الواجب مراعاتها من قبل أصحاب الشأن والقاضي في الدعوي من حين رفعها إلى القاضي إلى حين صدور الحكم فيها.
والغرض من هذه القواعد والأصول تنظيم عملية القضاء وجعلها معروفة للمتخاصمين وعلى نحو من السهولة والوضوح وتيسير التوصل إلي إظهار الحق وإثباته وإيصاله إلى صاحبه بطريق مأمون خال من الخطأ والعثار والتطويل وبأقصر وقت ممكن قدر الإمكان.
يباشر القاضي عمله القضائي في مكان معين وفي وقت معين، في مكان القضاء وزمانه. والقاضي عند جلوسه للقضاء فعلاً يحضر مجلسه جملة من الأعوان والموظفين، ويلتزم الحاضرون جميعاً بآداب معينة ما داموا يحضرون مجلس القضاء. ثم إن الدعوى يرفعها عادة أصحاب العلاقة فيها مباشرة، كما قد يرفعها وكلاؤهم، وبعد رفع الدعوى تأتي مرحلة المرافعة فيها، ولكن تسبق هذه المرحلة في الحقيقة، مرحلة الإعداد للمرافعة فعلاً مثل تبليغ الخصوم بالحضور ونحو ذلك، فإذا حضر الخصوم جرت المرافعة بحضور الخصمين، فالترافع بحضور الخصمين ، ثم إن المدعي عليه قد يكون غائباً فهل تقام عليه الدعوى؟ وكيف تجري مرافعته وهو غائب؟
وبناء علي سوف نتناول أصول استماع الدعوي أو أصول المرافعات
النحو التالي:
لابد للقاضي من مكان معين معروف يباشر فيه عمله القضائي، وهذا المكان يجب أن يكون مريحاً للقاضي وللخصوم، ويصل إليه الناس بسهولة ويسر، وقد ذكر الفقهاء بعض الأوصاف لمكان القاضي، فقالوا: يستحب أن يكون مكان القاضي في وسط البلد، وفي موضع بارز ليعرفه من أراده من مستوطن أو غريب، وأن يكون فسيحاً لا يضيق بالخصوم ولا يسرع إليهم فيه الملل، وأن يكون مصوناً من أذي البرد والحر ومن كل ما يؤدي كالروائح الكريهة والدخان والغبار ونحو ذلك كالأصوات المزعجة.
ومن أوصاف مكان القضاء أيضاً أن يكون مهيباً يناسب منصب القاضي وحرمة القضاء، قال الفقيه الرملي الشافعي وهو يتكلم عن مكان القاضي الذي يقضي فيه:” ….. ولائقاً بوظيفة القضاء التي هي أعظم المناصب وأجلّ المراتب بأن يكون على غاية من الحرمة والجلالة والأبهة”.
وذهب الفقهاء إلى جواز قيام القاضي بالقضاء في بيته عند الضرورة وفي هذه الحالة يجب عليه أن يفتح أبوابها ويجعل سبيلها سبيل المواضع المباحة من غير منع ولا حجاب.
ويجوز القضاء في المسجد على رأي كثير من الفقهاء، فقد فعله غير واحد من السلف مثل شريح والحسن والشعبي، وروي عن عمر وعثمان وعلي أنهم كانوا يقضون في المسجد، وبهذا قال الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل وإسحاق وابن المنذر وفقهاء الحنفية.
وقال الإمام الشافعي يكره القضاء في المسجد لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا يقضي في المسجد، ولأن القاضي ياتيه الذمي والحائض والجنب، ويجري بين المترافعين وأصحاب الدعاوي لغط وتجاحد، ولم تشيد المساجد إلى مثل هذا، بل يجب أن تصان منه.
واحتج المجيزون بإن إجماع الصحابة على جوازه. وقال الإمام مالك القضاء في المسجد من أمر الناس القديم، ولأن القضاء قربة وطاعة وإنصاف بين الناس فلا يكره في المسجد. وما رواه الإمام الشافعي عن عمر رضي الله عنه قد روي خلافه. وأما الحائض فلها أن توكل عنها إذا احتاجت إلى القضاء، والجنب يغتسل ويدخل، والذمى يجوز دخوله المسجد بإذن من المسلم. وقد كان النبي ﷺ يجلس في مسجده مع حاجة الناس إليه للقضاء والفتيا وغير ذلك من حوائجهم، وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضاً بالحقوق في المسجد وربما رفعوا أصواتهم.
والذي نرجحه، قول الإمام الشافعي لما قاله واحتج به، وهذا يستلزم إعداد مكان معين للقضاء يجلس فيه القاضي ويتلقى دعاوى الناس ويحكم فيها، ويحفظ في هذا المكان وثائق ومستمسكات وسجلات الدعاوي، وليس من الممكن أن يكون المسجد مكاناً لذلك، إذ لم تشيد المساجد لحفظ وثائق الناس وسجلات خصوماتهم لاسيما وقد كثرت دعاوي الناس وخصوماتهم. نعم يجوز عند الضرورة القصوي القضاء في المسجد، وعلي ان لا يطول أمد هذه الضرورة بالسعي الحثيث أسبابها وإيجاد المكان الملائم للقضاء.
قال الفقهاء: يجب على القاضي أن يعين أوقات جلوسه للقضاء وسماع دعاوي الناس النظر فيها، على أن تكون ساعات عمله غير مرهقة له. قال الإمام مالك رحمه الله تعالي:”ينبغي للقاضي أن يكون جلوسه للقضاء في ساعات من النهار لأني أخاف أن يكثر من ساعات الجلوس فيخطئ، وليس عليه أن يُتعب نفسه نهاره كله”. وقد قال بعض الفقهاء: لا ينبغي أن يجلس القاضي في أيام العيدين وما قارب ذلك كيوم عرفة ويوم التروية. وكذلك يوم الجمعة على ما قاله بعض المتأخرين، لأن القاضي- كما قال الفقيه ابن مازة-:” لابد له من يوم يستريح فيه حتي لا يمل أو ينظر في أموره”. وقال الفقيه السمناني:” وللقاضي أن يخص نفسه بزمان يصرفه في مصالحه وحوائجه ويعين للقضاء يوماً يكون قد صرف إليه وسعه، وليس عليه صرف زمانه أجمع إلي القضاء”. ولكن استثني من هذه الأيام- حيث يجوز القضاء فيها – القضايا التي يخاف فيها الفوات ولحوق الضرر فتقتضي التعجيل فينظرها القاضي حتي في هذه الأيام.
والواقع أن تعيين عمل القاضي وساعات عمله اليومية وأيام عطله التي يتعطل فيها عن القضاء ليستريح ويتفرغ إلى حوائجه وأشغاله الخاصة، كل ذلك من الأمور الاجتهادية المتروكة لولي الأمر، فهو الذي يقررها ويحددها ويعينها في ضوء مصلحة الناس وتحقيق الراحة الضرورية للقاضي، على أن يكون الأصل والقاعدة في تحديد أيام القضاء وساعات العمل اليومية ابتداءً وانتهاءً وأيام العطل الرسمية أمراً عاماً لجميع القضاة في جميع أنحاء دار الإسلام مع جواز الاستثناء لبعض المناطق ولبعض الدعاوي إذا اقتضت الضرورة أو المصلحة ذلك.
إذا جلس القاضي للقضاء في الأوقات المحددة لعمله، حضر مجلسه أعوانه مثل كاتبه ومترجمه وحاجبه وأهل مشورته من أهل العلم. وينبغي للقاضي أن يُجلس كاتبه بين يديه ليشاهد ما يكتب ويشافهه بما يملي عليه.
وجاء في المغني للإمام ابن قدامة الحنبلي: ينبغي للقاضي أن يحضر شهوده مجلسه، فإن كان القاضي ممن يحكم بعلمه أجلسهم حيث يشاء بحيث يستطيع استدعاءهم إذا احتاج إلى إشهادهم على حكمه ليشهدوا بذلك، وإن كان ممن لا يحكم بعلمه أجلسهم بالقرب منه حتي يسمعوا كلام المتخاصمين لئلا يقرّ منهم مقرّ ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه إقراره ويشهدوا عليه بذلك.
وإذا جلس القاضي في مجلسه للقضاء فيجب أن يكون في حالة نفسية هادئة رضية حتي يكون مستعداً تمام الاستعداد لسماع الدعاوي وما يقدمه الخصوم من بينات ودفوع، وبهذا جاء الحديث الشريف الصحيح عن النبيﷺ :” لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان”. فنص ﷺ ونبَّه على ما في معناه، ولهذا قال الفقهاء: ينبغي أن يكون القاضيخالياً من الجوع الشديد والعطش والفرح الشديد والحزن والهم العظيم والوجع المؤلم ومدافعة الأخبثين أو أحدهما، والنعاس، لأن هذه الأشياء ونحوها مثل الغضب من جهة تأثيرها في حالة القاضي النفسية وحضور ذهنه لمقتضيات الدعوي واستعداده المطلوب لسماع أقوال الخصمين.
قال الفقهاء: ينبغي أن يكون القاضي في مجلس القضاء غاض البصر كثير الصمت قليل الكلام، يقصر كلامه على سؤال أو جوابه، ولا يرفع بكلامه صوتاً إلا لزجر أو تأديب، وأن يلزم العبوس من غير غضب، وأن يكون جلوسه بسكينة ووقار، وأن لا يتضاحك ولا يتكلم بما لا علاقة له بأمور الدعوي التي ينظرها، وأن لا يتشاغل بالحديث في مجلس قضائه وإن أراد بذلك إجمام نفسه وإراحتها وإنما له أن يرفع الجلسة ويترك مجلس قضائه لفترة مناسبة إذا أراد ذلك، أي إذا أراد إجمام نفسه وإراحتها لبعض الوقت.
قال الفقهاء يجب أن يكون مجلس القضاء مهيباً وأن يكون القاضي على وضع يزيد من هيبته حتي في نوع وهيئة لباسه. قال الفقيه الماوردي، وهو يتكلم عن لباس القاضي في مجلس الحكم:”وإن كان القاضي ممازجاً لأبناء الدنيا تميز عنهم بما يزيد في هيبته من لباس لا يشاركه غيره فيه …. وأن يتميز بما جرت به عادة القضاة من القلانس والعمائم السود والطيالسة السود”.
مجلس القضاء ليس نادياً ولا مقهى يباح فيه الكلام والتصرفات كما يشتهي الإنسان، وإنما هو مكان جدّ وسكينة ووقار وقضاء وفصل بين الناس في خصوماتهم بالإخبار الملزم عن شرع الله، فلا مجال فيه، إذن، للعبث والتطاول وسوء الأدب والكلام القبيح من قبل الحاضرين سواء كانوا من خصوم الدعوي أو الشهود أو من غيرهم، وعلى هذا صدر من أحد الخصمين ما لا يليق ولا يناسب مجلس القضاء نظر إليه القاضي شزراً تأديباً له، وله أيضاً أن يرفع صوته عليه تأدبياً له. وإذا نهي القاضي أحد الخصمين عن الكلام فلم يمتثل لأمر القاضي جاز للقاضي أن يأمر أحد أعوانه بإخراجه تأديباً له. وإذا صدر من أحد الخصوم ما يسيء إلى خصمه أو إلى أحد الشهود أو إلي أهل المشاورة أو إلى أحد المستمعين، أو إلي القاضي نفسه، فإن من حق القاضي أن يوقع عليه عقوبة تعزيرية إساءته.
ولا يتكلم الخصمان إلا إذا وجه القاضي الكلام أو السؤال إليهما أو أذن لهما، فيتكلم من أذن له القاضي بالكلام وعلى خصمه أن يستمع ولا يقاطع خصمه أثناء كلامه، فإذا انتهى من كلامه جاز له أن يستأذن القاضي لييتكلم أو ليرد على خصمه، فإن أذن له تكلم، وإن لم يأذن له سكت.
والقاضي يسمع لكلام الخصمين دون ضجر ولا ملل ولا انتهار إلا أن يكون منهما لغط فينهرهما أو ينتهر اللاغط منهما.
ترفع الدعوي إلى المحكمة المختصة بنظر الدعوي، وهذه المحكمة في الأصل هي محكمة إقامة المدعي عليه، وعلى هذا فإن على المدعي أن يرفع دعواه إلى قاضي البلد أو المحل الذي يقيم فيه عادة المدعي عليه. جاء في واقعات المفتين في الفقه الحنفي:” إذا كان في المصر قاضيان، كل واحد منهما في محلة على حدة فوقعت الخصومة بين رجلين أحدهما فيمحلة، والآخر في محلة أخري، والمدعي يريد أن يخاصمه إلى قاضي محلته والآخر يأباه. قال أبو يوسف رحمه الله تعالي: العبرة للمدعي. وقال محمد:” لا، بل للمدعي عليه، وعليه الفتوي”. وفي نفس الكتاب:” ولو تنازع الجندي والبلدي في قضية، وأراد كل منهما أن يحكم قاضيه، فالعبرة لقاضي المدعي عليه”. ولكن إذا تعلقت الدعوي بعقار أو منقول موجود في غير بلد المدعي عليه فإن المحكمة المختصة بنظر الدعوي ويرفع إليها المدعي دعواه هي محكمة محل هذا الشىء من منقول أو عقار علي رأي بعض فقهاء المالكية، وقال فريق آخر من المالكية تبقي محكمة محل إقامة المدعي عليه هي المختصة بنظر الدعوي وإليها ترفع، فقد جاء في كتاب الحطاب:” إذا كان الشيء المدعي فيه غير بلد المدعي عليه، فقال ابن الماجشون الخصومة حيث المدعي فيه. وقال مطرف وأصبغ حيث المدعي عليه”.
وهل يلزم المدعي بدفع رسم معين أي مبلغ معين من المال – عند رفع دعواه إلى القاضي للنظر فيها وإصدار الحكم المناسب فيها؟ يبدو لي أن مرفق القضاء في دار الإسلام لا تأخذ عليه الدولة أجرة، باعتبار أن القضاء من وظائف الخلافة الشرعية وأنه قربة من القربات، لأن القاضي يقضي بين الناس بالحق وهو شرع الإسلام، ويرد الظالم عن ظلمه ويوصل الحق إلى مستحقه، وهذا مما يأمر به الإسلام. وهذا الذي نذهب إليه تؤيده السوابق التاريخية، فلم ينقل إلينا ان الناس كانوا يدفعون رسماً عن دعاواهم التي يرفعونها إلى القضاة، كما أن هذا المعنى يفهم من قول الفقيه ابن مازة رحمة الله تعالي وهو يتكلم عن أجر القسام، قال رحمه الله:” ……. وأجر القضاة في مال بيت المال، فكذا أجر أعوانه – أي أعوان القاضي – فصار القسام بمنزلة الكاتب، وأجر الكاتب في مال بيت المال، فكذا أجر القاسم”. ثم قال:” إن القضاء قربة وطاعة الله تعالي لأنه دفع الظلم عن المظلوم، فصار القضاء نظير تعليم القرآن وتعليم الفقه ونحوهما، ولا يجوز أخذ الأجر علي هذه الأعمال فكذا علي القضاء”.
ترفع الدعاوي شفاهاً إلى القاضي، بأن يحضر أصحابها فيدخلهم الحاجب على القاضي، الأسبق فالأسبق في الحضور فإذا دخل سأله عن دعواه ونظر فيها. أو أن القاضي يأمر كاتبه أو غيره بكتابة أسماء أصحاب الدعاوي بتسلسل الأسبقية في الحضور ثم يدخلهم الحاجب الواحد بعد الآخر حسب تسلسل أسمائهم، ويسأل القاضي كل داخل منهم عن دعواه وينظر فيها. فالترتيب في رؤية الدعاوي يكون بترتيب دخولهم علي القاضي المبني علي أساس أسبقيتهم بالحضور.
ويقول الكاساني إن عرف بلاده جرى علي أن كاتب القاضي يقوم بكتابة دعاوي الناس بذكر اسم المدعي والمدعي عليه وموضوع الدعوي والشهود ويضع كل دعوي في محفظة، ويجمع دعاوي كل شهر ومحافظها في محفظة علي حدة ويقدمها للقاضي، فيقوم القاضي بالتحري عن الشهود كل دعوي وتزكيتهم تمهيداً لمرافعة الدعوي.
والواقع أن كيفية رؤية دعاوي الناس والترتيب في رؤيتها هي من الأمور الاجتهادية، التي تخضع إلي ما يراه القاضي أو ما يراه ولي الأمر في ضوء المصلحة العامة وتحقيق السهولة واليسر في نظر الدعاوي علي وجه العدل. ومما لا شك فيه أن ما يحقق ذلك هو جعل أساس تقديم الدعوي إلي القاضي أن تكون مكتوبة بنسختين يذكر المدعي فيهما اسمه واسم خصمه وموضوع الدعوي ووسيلة إثباته، ثم يقدم هاتين النسختين إلي القاضي فيؤشر عليهما ويوقع عليهما مؤرخة ويأمر كاتبه أو غيره بتسجيلهما. ويعتبر التسجيل في سجل الدعاوي هو الأساس في ترتيب رؤية الدعاوي. وإذا كانت الدولة تستوفي رسماً عن كل دعوي فيكون تأشير القاضي علي عريضة الدعوي إيذاناً باستيفاء الرسم عنها. ويعتبر تاريخ استيفاء الرسم هو تاريخ تقديمها ثم يذهب بها إلى صاحبها إلى كاتب القاضي أو غير ليسجل دعواه في سجل الدعاوي، ويضع لها تاريخاً للمرافعة حسب كثرة أو قلة الدعاوي حسب توجيه القاضي. وتسلم النسخة الثانية من عريضة الدعوي إلي المدعي عليه عند تبليغه بالحضور أو في مجلس القضاء.
أشرنا في الفقرة السابقة، إلى كيفية رفع الدعاوي، وأن الترتيب في رؤيتها من قبل القاضي يكون علي أساس الأسبقية في حضور المدعين إلي مجلس القضاء، أو إلي تسلسل أسمائهم في قائمة أسماء المدعين التي يحررها كاتب القضاء أو من يكلفه من أعوانه بكتابة أسمائهم حسب حضورهم. أو علي أساس الأسبقية في كتابة دعاواهم من قبل كاتب القاضي كما ذكرناه نقلاً عن الإمام الكاساني.
ولكن مع التزام القاضي بهذا الترتيب في رؤية الدعاوي للمساواة بين الناس والعدل في نظر دعاواهم، إلا أن للقاضي أن يترك هذا الترتيب فيقدم دعاوي أصحاب الأعذار الذين لا يستطيعون الانتظار إلى أن تأتي نوبتهم في رؤية القاضي لدعاواهم، كالمسافرين ومن له مهمة عاجلة يخشي تضرره منها إذا تأخر نظر القاضي في قضيته إلى أن يأتي دوره في نظر قضيته. ولكن صاحب المغني قيَّدَ جواز تقديم قضايا المسافرين، على غيرهم وإن كانوا مسبوقين بغيرهم، بقلة عددهم، أي عدد المسافرين، أما إذا كانوا كثرة بحيث إذا قدم القاضي قضاياهم تضرر الآخرون، فإن القاضي لا يخرق قاعدة الترتيب في رؤية دعاوي الناس لأن الضرر لا يرفع بإضرار الآخرين.
الأصل أن صاحب الحق هو الذي يرفع الدعوي إلي القاضي إذا كان أهلاً لمباشرة هذا الحق بأن تتوافر فيه الشروط اللازمة لأن يكون مدعياً بأن يكون بالغاً عاقلاً غير محجور عليه لسفه ونحوه.
ولكن مع هذا يجوز لصاحب الحق أن يوكل غيره ليرفع دعواه نيابة عنه إلى القاضي ويترافع فيها نيابة عنه أيضاً، وهذا النائب أو الوكيل هو المسمي بالوكيل بالخصومة.
ويشترط لصحة هذه الوكالة أن يكون صاحب الحق الموكل كامل الأهلية فإن كان ناقصها أو عديمها ناب عنه في إقامة الدعوي وليُّه الشرعي.
التوكيل في الخصومة لإقامة الدعوي نيابة عن المدعي أو للمترافع عنه أو عن المدعي عليه أمام القاضي أمر جائز، وسواء كانت الوكالة بأجر أو بغير أجر، إلا أنها إن كانت بغير أجر، فهي إحسان ومعروف من الوكيل تلزمه إذا قبل التوكيل واستمر في الوكالة.
وقد صرح الفقهاء بجواز الوكالة في الخصومة، فقد قال الفقيه السمناني: إن الوكيل إذا صحت وكالته جاز للقاضي أن يسمع دعواه والدعوي عليه فيما يصح أن يتولاه لغيره، لأن النبي ﷺ وكَّل عمرو بن أمية الضمري في تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان فعقد للنبي ﷺ عليها. وهو عمل الناس في جميع الأمصار.
ليس للوكيل في دعوي معينة أن يوكل غيره فيما وكل هو فيه إلا أن يكون الموكل قد فوض إليه ذلك وأذن له به، أو أن الوكيل المذكور لا يلي مثل ما وكل فيه بنفسه وعلم الموكل بذلك.
والمقصود بالجعل في الوكالة في الخصومة أن يجعل الموكل لوكيله جعلاً معيناً مثل كذا دينار يستحقه إذا نجحت دعواه وصدر الحكم له، ولا يستحق شيئاً إذا لم تنجح الدعوي ولم تثبت. فهذا الاشتراط ومدي جوازه محل اختلاف بين الفقهاء، فبعضهم أجازه مشبهاً له بمجاعلة الطبيب على البرء والشفاء، وهذا جائز فكذا يجوز الجعل في الوكالة. وقد روي عن الإمام مالك أنه كرهه، كما روي عنه أنه أجازه، وقد وجَّه أصحاب مالك قوله بالكراهة بأن المرافعات في الدعوي قد تطول ولا يتحقق غرض الموكل الجاعل ويذهب عمل الوكيل مجاناً. ووجهوا قوله بالجواز أن الضرورة وحاجة الناس إلي مثل هذه الوكالة تدعو إلي جوازها.
تنتهي الوكالة بالخصومة بموت الموكل أو موت من وُكل عليه أو عزل نفسه أو عزل من وكله أو بلوغ من وُكل له من الصغار أو موتهم. هذا ما ذكره الفقيه السمناني رحمه الله تعالي. ولكن فيما قاله شيء من التفصيل والتوضيح، فالوكالة بالخصومة إذا تعلق بها حق الوكيل كما لو كانت بعوَض لم يكن للموكل عزل وكيله إلا إذا ظهر غش الوكيل. وكذلك إذا تعلق بالوكالة حق للغير فلصاحب الحق أن يمنع الموكل من عزل وكيله. وكذلك لا ينعزل من الوكالة إذا مات الموكل وكانت الدعوي قد أوشكت علي الانتهاء، ويوشك القاضي أن يصدر الحكم، وليس للورثة عزله في هذه الحالة.
قلنا في الفقرت السابقة إنَّ صاحب الحق أو وكيله أو وليه الشرعي هو الذي يرفع الدعوي إلى القاضي للمطالبة بحقه، وهذا القول يسري علي الدعوي المدنية والجزائية. ولكن هل يجوز رفع الدعوي الجزائية من قبل النيابة العامة كما يجري الآن حيث تقوم الدولة بتعيين (النائب العام) أو (المدعي العام) وتعين نواباً له وتنيط بهم ملاحقة الجرائم والمجرمين ورفع الدعاوي الجزائية عليهم والمطالبة بإنزال العقاب بهم؟ يبدو لي أنَّ الجواب بالإيجاب، لأن الجرائم أفعال محرمة شرعاً فهي معاصي وضرر بمصلحة الأفراد والمجتمع وفساد في الأرض، والشريعة الإسلامية تأمر بإزالة الضرر والفساد، فمن واجب ولي الأمر أن يتخذ كافة الوسائل المباحة لتحقيق هذا الغرض، ومن هذه الوسائل تعيين هيأة النيابة العامة لتقوم بمهمة ملاحقة الجرائم ورفع الدعاوي علي المجرمين، وتعتبر وهي تمارس عملها هذا نائبة عن المجتمع والفرد المتضررين بالجريمة.
كما أن في كل جريمة حق لله سواء كان هذا الحق خالصاً لله أو معه حق العبد، وحق الله ما تعلق به نفع العامة فهو حق المجتمع، فيجوز تعيين نائب عن المجتمع ليرفع الدعوي علي المجرم.
قل أن يباشر القاضي المرافعة فيسمع دعوي المدعي وبينته، ودفوع المدعي عليه أو إقراره، يقوم القاضي بإحضار المدعي عليه إذا لم يحضر من تلقاء نفسه. فإذا حضر هو وخصمه مجلس القاضي لزم القاضي التسوية يينهما، وأجلسهما أمامه والتزم الخصوم بجملة آداب، وهذا ما نبينه في هذا المبحث.
إذا حضر المدعي عليه إلي مجلس القضاء من تلقاء نفسه إجابة لطب المدعي وكان حضوره في موعد رؤية الدعوي، نظر القاضي في الدعوي لحضور الطرفين، ولم يحتج إلى دعوته من قبله لأنه حضر مع المدعي وحصل المقصود.
أما إذا لم يحضر المدعي عليه إلي مجلس القضاء ولم يستجب لطلب المدعي بالحضور معه إلي القاضي، وتقدم المدعي إلى القاضي بطلب إحضار المدعي عليه، فإن القاضي يجيبه إلى طلبه، والقاعدة في إحضار الخصم من قبل القاضي هي : “أن يدعوه بأرفق الوجوه وأجمل الأقوال لأنه يدعوه إلي حكم الله ودينه” كما يقول الفقيه السمناني، وتكون هذه الدعوة له بالحضور بأساليب شتي منها: أن يرسل القاضي أحد أعوانه مع المدعي لإحضار المدعي عليه، أو أن يختم للمدعي علي طين أو شمع بخاتمه المعروف أو بكتاب من القاضي ويسلمه له ليكون علامة استدعاء القاضي للمدعي عليه إذا أرأه المدعي هذه العلامة، أو أن يجمع القاضي بين الأمرين فيبعث أحد أعوانه مع المدعي مع تسليمه الختم. فإذا بلغ استدعاء القاضي المدعي عليه بالحضور إلى مجلس القضاء بإحدي الكيفيات التي ذكرناها، وجب على المدعي عليه أن يحضر إلي مجلس القضاء في الموعد المطلوب، أو أن يرسل عنه وكيلاً بالخصومة. وإذا أراد المدعي عليه أن يسلم الحق إلي المدعي حالاً جاز ذلك، وكان علي المدعي أن يخبر القاضي بذلك وبتنازله عند دعواه وعن إحضار المدعي عليه.
إما إذا امتنع المدعي عليه عن الحضور ولم يسلم الحق للمدعي فإن القاضي بالخيار: إن شاء أن يحضره جبراً بأهل القدرة من أعوانه، وإن شاء أن يطلب من صاحب الشرطة أو من أمير البلد إحضاره. فإذا تم إحضاره عزره القاضي علي امتناعه بما يليق به من التعزيز إن لم يبين عذراً مقبولاً عن تخلفه عن الحضور كالمرض ونحوه، ثم تجري المرافعة حضورياً. ويجوز للقاضي أن لا يطلب إحضار المدعي عليه جبراً إذا بلغه استدعاؤه له بالحضور ولم يحضر، ويجري القاضي المرافعة بحقه غيابياً ويصدر الحكم وفق إجراءات معينة سنذكرها فيما بعد.
والقاضي يحضر المرأة إذا ادعي عليها أحد بحق كما يحضر الرجل إذا كانت برزة، فإن لم تكن برزة فلا يحضرها ولكن يرسل إليها من يسألها عن دعوي خصمها. أما إذا كانت هي صاحبة الحق وهي مخدرة غير برزة، فلها أن تُعلم القاضي بأنها تريد إقامة الدعوي على خصمها وأنها تطلب من القاضي إجابة طلبها هذا، وفي هذه الحالة يرسل القاضي إليها شاهدين وبعض الوكلاء فتوكل في ذلك ويشهد الشهود عليها. ثم يتقدم الوكيل بالدعوي نيابة عنها بما تدعيه من حق علي خصمها. فإن وجب عليها أداء يمين حتي يمكن القضاء به للوكيل لها فإن القاضي يرسل إليها من يسأل عن ذلك ويستوفي اليمين منها ما دام اليمين يجب عليها.
وإذا كان المدعي عليه يقيم في غير بلد القاضي، وكان بلد المدعي عليه داخلاً في ولاية القاضي وصلاحيته المكانية وليس فيه ناب له، فإن القاضي يكتب إلى أمير بلد المدعي عليه لإحضاره إلى مجلس القضاء في يوم المرافعة. أما إذا كان بلد المدعي عليه خارجاً عن ولاية القاضي وصلاحيته المكانية فإن القاضي لا يملك سلطة إحضاره بواسطة أمير البلد، وإنما له أن يجري محاكمته غيابياً إذا توافرت الشروط اللازمة لذلك كما سنذكره فيما بعد.
فإذا حضر الخصوم مجلس القضاء، جلسوا بين يدي القاضي علي بعد مناسب منه بحيث يستطيع أن يسمع كلامهم ويستطيعون أن يسمعوا كلامه دون حاجة إلى رفع الصوت. وجلوسهم لابد منه حتي أن القاضي لا يسمع دعوي المدعي ولا يسمع الجواب من المدعي عليه وهما قائمان، بل لابد من جلوسهما حتي يسمع كلامهما، وبهذا جاءت السنة النبوية. فقد روي الإمام أبو داود في سننه عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال:” قضي رسول الله ﷺ أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي”. وكلمة (قضى) تعني: حكم أوجب. وهذا الحديث دليل على مشروعية قعود الخصوم بين يدي القاضي، بل ويدل على وجوب القعود خلافاً لما يدعيه البعض من أن وقوف الخصوم هو من آداب القضاء ومجلس القضاء. وقد أورد الفقيه الماوردي في كتابه أدب القاضي، خبراً عن علي رضي الله عنه وفيه قوله:”بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن قاضياً …….وفيه قوله عليه الصلاة والسلام:” فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقض حتي تسمع من الآخر كما سمعت من الأول”.
والواقع أن جلوس الخصمين هو أكثر طمأنينة وراحة لهما من الوقوف لاسيما وقد تطول المرافعة فيطول وقوفهما ولا يخفي ما في ذلك من المشقة والتعب عليهما.
القاضي مأمور بالتسوية بين الخصمين فيما يقدر عليه من أمور التسوية ومعانيها ومظاهرها، والقاعدة هنا هي (كل شيء يقدر علي التسوية بينهما فيه لا يعذر بتركه) فمن ذلك، أن القاضي يسوي بينهما في النظرة ولين الكلام والبشاشة فلا يبتسم لأحدهما ويعبس في وجه الآخر، ولا يظهر الاهتمام والإصغاء لأحدهما دون الآخر، ولا يكلم أحدهما بلغة لا يفهمها الآخر ما دام قادراً علي الكلام بلغة يفهمها الخصمان كلاهما.
ويفعل القاضي ذلك بين جميع المتخاصمين حتي أنه يجب عليه أن يسوي بين الأب وابنه، والخليفة والرعية، وبين المسلم وغير المسلم.
إن التسوية بين الخصمين في مجلس القضاء، ضرورية لحسن التقاضي، لأنها تبعث الطمأنينة في نفوس المتخاصمين وتجعلهما يتكلمان دون خوف ولا تلعثم ويقدمان كل ما عندهما من بينات ودفوع مما يعين علي ظهور الحق وإظهاره. ولأهمية أمر التسوية بين الخصوم، أوصي به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري عندما ولاه قضاء البصرة، فقد كتب له:” آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتي لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك”.
وقد سار قضاة الإسلام علي هذا النهج السديد، نهج التسوية بين الخصوم، الذي أوصي به عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء الراشدين، وقد حفظ لنا التاريخ نماذج ساطعة من أخذ القضاة بالتسوية بين الخصوم حتي لو كان أحدهم هو أمير المؤمنين. فقد أقام بعض الناس دعوي علي الخليفة أبي جعفر المنصور عند قاضي المدينة محمد بن عمران، عندما قدم أبو جعفر حاجاً، فاستدعاه القاضي وأجلسه مع خصومه وقضي عليه لهم وأمره بإنصافهم. ولما انصرفوا قال له المنصور: جزاك الله عن دينك أحسن الجزاء. وحصل أيضاً للخليفة العباسي المهدي إذ تقدم مع خصوم له إلي قاضي البصرة عبد الله بن الحسين العنبري فلما رآه القاضي مقبلاً أطرق إلي الأرض حتي جلس المهدي مع خصومه مجلس المتحاكمين حتي انقضت المحاكمة.
والواقع أن القاضي لا مصلحة له مطلقاً في خرق مبدأ التسوية بين الخصوم لأن وظيفته التحري عن الحق والحكم به والحرص عليه، فهو لا يهمه إن ظهر أن الحق مع هذا الخصم أو ذاك لأن همه منصب علي إظهار الحق لا على الجانب الذي يظهر له الحق، ومن أجل هذا كان عليه أن يظهر حياده التام بين الخصمين عن طريق الالتزام الصارم بالتسوية بينهما في النظرة والنبرة ورفع الصوت وخفضه ولين الكلمة وخشونتها، وبالالتفاتة إليهما، وإظهار الاهتمام بهما والإصغاء إليهما، حتي لا يبدو عليه أي ميل لأحدهما دون الآخر، فليس عنده إلا الدعوي وما يثبتها أو يدفعها وفي ضوء ذلك يصدر حكمه، فلا يخاف أي خصم من حيف القاضي وقلة إنصافه.
في اليوم المقرر لنظر الدعاوي والترافع فيها يجلس القاضي في مجلس القضاء وبين يديه رقاع الدعاوي التي ينظرها في ذلك اليوم، ثم يدعو الخصوم حسب ترتيبهم وتسلسل تسجيل أسمائهم، فيدخل المدعي وخصمه المدعي عليه ويجلسان أمام القاضي، وقبل أن يسأل القاضي المدعي عن دعواه يعظ الخصمين محذراً من الخصومة بالباطل لأن الخصومة بالباطل توقع في سخط الله تعالي. ثم يأمرهما بالتؤدة والوقار ويسكن جأش المضطرب منهما ويؤمن روع الخائف.
ثم يسأل القاضي المدعي عن دعواه ويأمر كاتبه بكتابتها في رقعة بنفس ألفاظ المدعي بلا زيادة ولا نقصان، وهذا إذا لم يكن الكاتب قد كتب دعوي المدعي قبل دخوله مجلس القضاء، إذ لو كان قد كتبها من قبل لما كانت حاجة في إعادة كتابتها. وكذلك إذا كان المدعي قد قدم دعواه مكتوبة وسلمها إلى الكاتب، فلا حاجة إلي إعادة كتابتها في مجلس القضاء. وفي جميع الأحوال إذا ظهر للقاضي أن الدعوي فاسدة فإن القاضي ينبه المدعي ويقول له: دعواك هذه فاسدة فاذهب وصححها، وهذا من القاضي على سبيل الإفتاء لا القضاء. وإذا كانت صحيحة مضي القاضي في نظر الدعوي والمرافعة.
ثم يتوجه القاضي بالسؤال إلي المدعي عليه ويقول له: ادعى عليك المدعي هذا ما سمعته وهو كذا وكذا فماذا تجيب عنه؟ فإذا قال المدعي عليه: أطلب نسخة من دعوي المدعي لأقرأها على مهل وأفهمها جيداً وأتفكر بما فيها ثم أجيب عليها، أجابه القاضي إلى طلبه وأمر بكتابة نسخة له من دعوي المدعي وأمهله مدة مناسبة للإجابة. فإذا انتهت المهلة وأحضر الجواب، أو أن المدعي عليه لم يستمهل وأراد الجواب علي الدعوي في الحال فلا يخلو جواب المدعي عليه من واحد من ثلاثة أمور: إما أن يقر بما يدعيه المدعي، وإما أن ينكر ما يدعيه المدعي، وإما أن يمتنع عن الجواب فلا يقر ولا ينكر، ولكل واحد من هذه المواقف حكمه الخاص به علي النحو التالي:
إذا أقرَّ المدعي عليه، كتب إقراره بلفظه لا يزيد فيه ولا ينقص منه، وأمره بأداء ما أقرَّ به.
أما إذا أنكر المدعي عليه فإن القاضي يثبت إنكاره في الرقعة التي أثبت فيها دعوي المدعي، على أن يكون كتابة إنكاره بنفس ألفاظه بلا زيادة ولا نقصان. ثم يسأل القاضي المدعي قائلاً: هل لك بينة على دعواك؟ فإن كانت له بينة حاضرة وطب المدعي من القاضي سماعها، سمعها القاضي في الحال وكتب فيها محضراً، وإن استمهل لإحضارها أمهله القاضي المدة المناسبة. وسواء قدم المدعي بينة في الحال أو بعد المهلة التي أعطيها ولم يطعن فيها المدعي عليه أو ادعي أن فيها مطعناً وعجز عن إثباته ثبتت الدعوي. وإذا قال المدعي بعد إنكار المدعي عليه وسؤال القاضي له عن بينته: لا بينة لي، أو قدم بينة غير مقبولة، عرض القاضي عليه تحليف خصومه المدعي عليه اليمين، فإن طلب تحليفه حلفه القاضي، فإذا حلف ردت دعوي المدعي، وإذا نكل المدعي عليه عن اليمين ثبتت دعوي المدعي.
ويلاحظ هنا أن المدعي عليه إذا حلف اليمين وردت دعوي المدعي فإن المدعي لا يقبل منه بعد ذلك تقديم بينة، إلا أن الفقيه ابن حزم الظاهري استثني من ذلك “تواتراً يوجب صحة العلم يقيناً أنه حلف – أي المدعي عليه – كاذباً، فيقضي عليه بالحق أو يقر بعد أن يكون حلف فيلزمه ما أقر به.
وإذا امتنع المدعي عليه عن الجواب فلم يقر ولم ينكر وإنما سكت ولم يجب اعتبرنا كلا، فيقضي للمدعي ما أدعى به مع يمينه.
المرافعة بين الخصوم وسماع الدعاوي والبينات والدفوع وإصدار الأحكام في الدعاوي التي انتهت مرافعاتها، كل ذلك يجري علانية في مجلس القضاء، ويجوز لمن يرغب من عامة الناس حضور مجلس القضاء لمشاهدة ذلك وكل ما يجري فيه. وهذا، في الحقيقة أمر مفهوم بداهة، فقد مرَّ بنا أن كثيراً من الفقهاء أجاز القضاء في المسجد، والمسجد محل عام للعبادة يحضره من شاء من الناس للتعبد فيه، فلهم، إذن، أن يسمعوا ترافع الخصوم فيه أمام القاضي. وذكرنا أيضاً إجازة الفقهاء للقاضي أن يباشر القضاء في بيته للضرورة بشرط أن يفتح أبواب داره ويجعلها محلاً عاماً أثناء قيامه بالقضاء، حتي يدخلها من يشاء، بل إن حضور الناس لمجلس القضاء لسماعهم ما يجري فيه من تقديم البينات والدفوع، صار أمراً مألوفاً لا يستساغ تركه، فقد جاء في روضة القضاة للسمناني ” وقد شاهدت قاضياً علي باب دار الخلافة المعظمة يقضي في دهليز باب النوبة، والخصوم قيام بين يديه، وأعوان الشرطة والعامة والهدهاد – صاحب مسائل القاضي- يسمعون ما يجري ويجتمعون على ذلك ولا ينكر القاضي علي أحد ….. وشيخنا قاضي القضاة رحمه الله يبلغه ذلك من أعوانه علي الحكم ودقيق ما يجري فلا ينكر على خليفته ولا غيره حتي صار ذلك شرعاً مألوفاً يعتقد أن غيره لا يجوز”.
وإذا كان الأصل في المرافعة أن تكون علانية لا خفاء فيها ويحضرها من يشاء الحضور، فإنه قد يري القاضي المصلحة في جعلها سرية لا يحضرها أحد من الناس، بل وحتي أعوانه فتبقي مقتصرة عليه وعلى أطراف الدعوي فقط، ويدل على هذا ما ذكره الفقهاء. فقد قال الفقيه السمناني: ” وإن كان الجلواز ثقة فلا يئس أن يقف يسمع، وبعده أولي لأن الخصومة تكون في أمور ربما كانت شنعة بين الرجال والنساء أو مضحكة لا يؤمن أن يؤدي ذلك إلى ما يكره”. فإذا جاز إبعاد الجلواز – وهو من أعوان القاضي – عن حضور الجلسة ومرافعاتها خشية سماعه ما يكره الخصوم إذاعته وانتشاره، فمن باب أولي جواز منع العامة من حضور المرافعة إذا رأي القاضي المصلحة الشرعية تقضي بذلك، أو إذا طلبها الخصوم ورأي القاضي أن طلبهم قبول. وفي الفتاوي الهندية:”وإذا جلس الخصمان بين يدي القاضي، ورأي القاضي أن يأمر صاحب المجلس ليقوم ببعد منه حتي لا يعرف ما يدور بين الخصمين وبين القاضي ….. فعل ذلك. والحاصل أن القاضي يعمل ما فيه النظر في أمور الناس والاحتياط”.
وهذا الكلام، واضح الدلالة، في أن للقاضي أن يعمل ما فيه مصلحة وما فيه احتياط، ولا شك أن جعل المرافعة سرية لما يخشي من وقوف الناس على ما ينبغي كتمانه من أمور الدعوي والخصوم هو من النظر للخصوم ومن رعاية مصلحتهم المشروعة.
إذا ترافع إلى القاضي أعجميان لا يعرف القاضي لغتهما، أو ترافع إليه أعجمي لا يعرف لغته، وآخر يعرف لغته، فلابد من مترجم عنهما. ولا يقبل القاضي الترجمة عنهما إلا من اثنين عدلين عند الشافعي والحنابلة، وعن الإمام أحمد بن حنبل رواية أخري أن الترجمة تقبل من واحد وهذا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله، والحجة لهذا القول أن الترجمة لا تفتقر إلى لفظ الشهادة فيجزئ فيها الواحد كما هو الحال في الأخبار في الديانات. واحتج من اشترط العدد في الترجمة أنها نقل ما خفي علي الحاكم إليه فيما يتعلق بالخصمين فوجب فيه العدد كالشهادة، ويفارق أخبار الديانات فإنها لا تتعلق بالمتخاصمين، أما الترجمة فإنها شهادة أو كالشهادة فتحتاج إلى اثنين عدلين، ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الإقرار بالحق المدعي به. فإن كان يتعلق بالحدود والقصاص فلابد من عدلين ذكرين، وإن لم يتعلق بها جازت الترجمة من رجل وامرأتين. وإن قلنا يكفي في الترجمة واحد فلابد من عدالته، وعلى هذا القول، أي الكفاية بواحد، تقبل ترجمة المرأة بمفردها إذا كانت من أهل العدالة لأن روايتها مقبولة. ولا يشترط في الترجمة لفظ (أشهد).
والذي نميل إلى ترجيحه قبول الترجمة من واحد إذا كان حاذقاً وخبيراً في الترجمة وعدلاً موثوقاً بعدالته سواء كان ذكراً أو أنثي، لأن هذا هو الأيسر والأرفق بالناس، ولأن المترجم لا عمل له سوي نقل معني كلام المدعي أو نقل معني كلام المدعي عليه بلغة القاضي.
قد يطلب الخصوم بعض الطلبات أثناء المرافعة في الدعوي، مثل طلب الحجز الاحتياطي، أو تأجيل المرافعة لإحضار بينة، أو طلب قسمة مال معين، أو معاينة شيء تعلق به النزاع، فما مصير هذه الطلبات؟ الأصل أن القاضي يجيب طلبات الخصمين إذا تعلقت بالدعوي وكان لهذه الطلبات مبرر شرعي مقبول. ونتكلم فيما يلي عن طلبين (الأول) طلب الحجز الاحتياطي (والثاني) تأجيل المرافعة.
يجوز للمدعي عند رفع الدعوي إلى القاضي أو في أثناء المرافعة أن يطلب من القاضي إصدار قراره بالحجز الاحتياطي على المدعي فيه موضوع الدعوي، ويبقي هذا الحجز قائماً ونافذاً إلي انتهاء المرافعة وإصدار الحكم النهائي في الدعوي، صيانة لحق المدعي من الضياع.
إلا أنه يشترط لإجابة طلب المدعي بالحجز الاحتياطي وجود سبب يقوي دعواه مثل شهادة العدل أو المرجو تزكيته.
وإذا صدر قرار القاضي بالحجز الاحتياطي فإن آثاره تختلف باختلاف المدعي فيه الذي تعلق الحجز به على النحو التالي:
وهناك رأي آخر عند المالكية أن هلاك الحيوان يكون على من يستحقه فتكون الغلة له وتكون النفقة عليه.
قد يؤجل القاضي المرافعة إذا رأي حاجة لهذا التأجيل، كما لو أراد معاينة شيء له تعلق بالدعوي، أو للتحري عن عدالة الشهود. كما أن للخصمين، المدعي والمدعي عليه، طلب التأجيل لإحضار بينة تؤيد الدعوي أو تدفعها. فإذا طلب التأجيل أحد الخصمين، أجاب القاضي طلبه إذا وجد ما يبرر هذا الطلب، فيؤجل المرافعة إلى مدة مناسبة. فإذا انقضي الأجل ولم يأت من طلب التأجيل ما وعد بإتيانه وطلب مهلة أخري أجاب القاضي طلبه إذا رأي مسوغاً لذلك. وللقاضي تمديد الأجل وتكرير الإمهال أكثر من مرة إذا مبرراً شرعياً لذلك. أما مدة الأجل فمتروك لتقدير القاضي واجتهاده.
وإذا كان القاضي يستطيع تأجيل المرافعة للمصلحة والحاجة حسب اجتهاده، فإن الخصمين من حقهم أن يطلبا التأجيل لسبب يقبله القاضي، فإن هناك آجالاً إلزامية يجب علي القاضي الأخذ بها ويجب علي الخصوم قبولها. ومن هذه الآجال الإلزامية، الأجل الذي يضربه القاضي إلى المجنون جنوناً حادثاً فيعزل عن زوجته سنة واحدة فإن شفي من جنونه خلال السنة بقيت له زوجته، وإن بقي علي جنونه حكم القاضي بالتفريق بينهما وانتهت دعوي التفريق التي أقامتها الزوجة.
والمفقود إذا رفعت زوجته الدعوي إلي القاضي طالبة التفريق من زوجها، أجَّل القاضي الدعوي والمرافعة فيها أربع سنوات من تاريخ العجز عن خبره بعد البحث عنه، فإن جاء خلال هذه المدة فالنكاح باقٍ والدعوي تبطل، وإن انقضت المدة ولم يأت، حكم القاضي بالتفريق بينهما.
والمرتد إذا رفع أمره إلى القاضي أجَّله القاضي ثلاثة أيام فإن تاب خلالها ورجع عن ردته أطلق سراحه وسقط عنه عقاب المرتد، وإن أصر على ردته عوقب بعقوبة المرتد.
وإذا انقضت الآجال التي ضربها القاضي بناء علي طلب أحد الخصمين ولم يأت الخصم المؤجل ما وعد بإتيانه، ولم يأت بعذر يوجب له تأجيلًا آخر فإن القاضي يصدر قراره بتعجيز هذا الخصم، أي اعتباره عاجزاً عن تقديم بينته التي تثبت الدعوي إن كان هو المدعي، أو تثبت دفعه إن كان هو المدعي عليه، ثم لا يسمع القاضي منه بعد ذلك حجة ولا بينة إذا أتي بها سواء كان هذا المُعجَّز هو المدعي أو المدعي عليه.
إلا أن القاضي لا يصدر قراره بالتعجيز في ثلاث دعاوي هي : دعوي العتق، والطلاق، والنسب. فيجوز لمن عجز عن تقديم بينته في هذه الأشياء الثلاثة أن يقدمها إذا عثر عليها ويقبلها منه القاضي.
وإذا قضي القاضي علي المدعي بإسقاط دعواه لعدم تقديم البينة بالرغم من إمهاله وتأجيل المرافعة لذلك من دون إصدار قرار بتعجيزه، فإن للمدعي الحق في رفع دعواه مرة أخري وينظرها القاضي ويسمع بينته إذا قدمها.
ولا يصدر القاضي حكمه في الدعوي إلا بعد سماع كافة حجج الخصمين ويقرر ختام المرافعة بعد أن يقول الخصمان: لم يبق لنا قول نقوله ولا حجة ندلي بها. وفي هذا يقول الإمام مالك: إذا أدلي الخصمان بحجتيهما وفهم القاضي عنهما وأراد أن يحكم بينهما أن يقول لهما: أبقيت لكما حجة؟ فإن قالا: لا، حكم بينهما ثم لا يقبل منهما حجة بعد إنفاذ القضاء، أي بعد إصدار الحكم، وإن قال أحدهما أو كلاهما بقيت لي حجة، أمهله القاضي ما لم يظهر لدده ومماطلته وتسويفه فحينئذ يقرر القاضي عجزه عن تقديم بينته أو دفعه. وقال الفقيه ابن فرحون: “ولا يحكم القاضي على أحد إلا بعد أن يسأله: أبقيت لك حجة؟ فيقولا: لا”.
إذا رفع المدعي دعواه إلي القاضي، وفي اليوم المحدد للمرافعة، قد لا يحضر المدعي، فهل يجري القاضي المرافعة بغيابه إذا طلبها المدعي عليه؟ وقد يحضر المدعي ولا يحضر المدعي عليه بالرغم من تبليغه بالحضور، فهل يجري القاضي المرافعة بغيابه إذا طلبها المدعي؟ ثم إن المدعي عليه قد يكون خارج بلد القاضي، فهل يمكن للمدعي أن يرفع دعواه عليه إلى هذا القاضي ويطلب مرافعته بالرغم من كونه خارج بلد القاضي وغائباً عن مجلسه؟ هذه الحالات من غياب أحد الخصمين ومدي تأثيرها في إجراء المرافعة.
إذا رفع المدعي دعواه إلى القاضي بأن سجلها الكاتب في سجله، أو في رقعة على حدة، كما أشرنا من قبل، وفي اليوم المحدد للمرافعة لم يحضر المدعي، فإن القاضي لا ينظر دعواه ويتركها للمراجعة، أي لمراجعة المدعي، ويدل على ذلك ما ذكره الفقيه الماوردي إذ قال رحمه الله تعالي:”فلو نودي صاحب رقعة – يعني اسم المدعي المذكور على رقعته – فلم يحضر، كرر النداء ثلاثاً، فإن لم يحضر أخرجت رقعة غيره ونودي صاحبها. فإن حضر صاحب الرقعة الأولي، وقد حضر صاحب الرقعة الثانية، فإن كان حضوره قبل الشروع في النظر بين الثاني وخصمه قدم الأول عليه وإن شرع في النظر لم يقطع النظر واستوفاه ثم نظر للأول بعده…”. ويؤيد ذلك أنهم قالوا إن المدعي هو من إذا ترك دعواه فلا يجبر عليها، وإن المدعي عليه بخلافه يجبر عليها. ولكن مع هذا يمكن القول، إن لولي الأمر، أن ينظم مسألة ترك المدعي دعواه، من جهة ما يترتب علي ذلك من سقوط دعواه إذا لم يرجعها خلال مدة معينة، وأن للمدعي عليه الحق في طلب سماع دفعه لدعوي المدعي لرد هذه الدعوي، ونحو ذلك من وجوه تنظيم هذه المسألة بما يكفل المصلحة للجميع ويصون القضاء من العبث والاشتغال بما لا يفيد.
والمدعي عليه الغائب قد يكون مقيماً في غير بلد القاضي، أو يكون مقيماً في بلد القاضي، ونذكر فيما يلي كيفية المرافعة في هاتين الحالتين.
سبق وأن قلنا إن محكمة بلد المدعي عليه هي المختصة بنظر الدعوي التي ترفع عليه باعتبارها هي صاحبة الصلاحية المكانية بالنسبة للدعوي المرفوعة على المدعي عليه المقيم في بلدها إلا إذا تعلقت الدعوي بشىء موجود في بلد آخر غير بلد المدعي عليه، ففي هذه الحالة تختص محكمة محل هذا الشىء – من عقار أو منقول – في نظر الدعوي والترافع أمامها بشأن هذه الدعوي بغض النظر عن بلد المدعي عليه، على رأي بعض الفقهاء. وقد لاحظت أن الفقهاء – من غير الأحناف – الذين يجيزون القضاء علي الغائب – كالشافعية والحنابلة – يجيزون رفع الدعوي على الغائب أمام قاض لا ولاية له على بلد هذا الغائب المدعي عليه حتي ولو كانت الدعوي لا تتعلّق بشىء موجود في بلد القاضي، محتجين بأن القاضي لا يملك الولاية على إحضار المدعي عليه الغائب، فيجوز له، إذن، سماع الدعوي وبينة المدعي مع غياب المدعي عليه وعدم ولاية المحكمة على بلده حفظاً لحق المدعي من الضياع.
وإذا عرف ما ذكرناه، فإن القاضي يجوز له سماع دعوي المدعي على خصمه الغائب وإجراء المرافعة ضده بالرغم من كونه يقيم في غير بلد القاضي ولا ولاية للقاضي علي بلده بشرط أن تكون دعواه متعلقة بحقوق الآدميين لا بحقوق الله وأن لدي المدعي بينة على دعواه.
وللقاضي عند سماعه الدعوي علي الغائب وإجراء المرافعة مع غيابه، خياران:
الأول– أن يسمع دعوي المدعي وبينته ويكاتب بها قاضي بلد المدعي عليه ليحكم بها، ما دام قد وثّق هذه البينة.
الثاني– أن يحكم بالبينة المقبولة عنده بعد أن يسمعها ثم يكاتب قاضي بلد المدعي عليه بحكمه لتنفيذه علي المدعي عليه.
ويلاحظ هنا أن القاضي في هذا الخيار الثاني لا يحكم للمدعي بعد سماعه بينته وقبولها إلا بعد إحلافه بالله – إن كان الحق بالذمة – أنه ما قبضه ولا شيئاً منه ولا أبرأه منه ولا من شىء منه. وإن كان الحق في عين قائمة أحلفه بالله أن ملكه عليه باقٍ ما زال عنها ولا عن شىء منها. وتحليف المدعي مع بينته هو مذهب الشافعية وإحدي الروايتين في المذهب الحنبلي. والحجة لهذا القول هي أن المدعي يجوز أن يكون قد استوفي حقه، وأن الغائب لو كان حاضراً لأمكنه أن يدعي إيفاء حق المدعي ويطلب تحليفه اليمين إذا عجز عن إثبات الإيفاء، فمع هذا الاحتمال، ولكون القاضي مأموراً بالاحتياط في حق الغائب فإنه يحلف المدعي اليمين علي عدم استيفائه حقه بالرغم من تقديمه البينة. والقول الثاني في المذهب الحنبلي هو الاكتفاء بقبول بينة المدعي وعدم تحليفه اليمين للحديث النبوي الشريف ” البينة علي المدعي واليمين على من أنكر” والمدعي قدم البينة فلا يطالب معها باليمين، لأنها بينة عادلة فلا تجب معها اليمين كما لو كانت البينة علي المدعي عليه الحاضر.
وإذا قدم الغائب قبل الحكم استدعي للحضور، فإن استمهل القاضي أمهله المدة المناسبة ليقدم دفعه، فإذا قدم دفعه أو جرح شهود المدعي أو ادعي الإيفاء أو الإبراء، فإذا أثبت ما ادعاه برئ من الدعوي، وإن عجز عن الإثبات كان له تحليف المدعي ثم يصدر القاضي حكمه.
أما إذا حضر الغائب بعد صدور حكم القاضي، وقدم بينة مقبولة تدفع دعوي المدعي فإن القاضي يصدر قراره بإبطال الحكم الذي أصدره. أما إذا عجز المدعي عليه من إثبات دفعه فله تحليف المدعي اليمين، فإذا حلف بقي الحكم صالحاً للتنفيذ وإذا نكل أبطل القاضي الحكم الذي أصدره وبرئ المدعي عليه من الحكم.
وإذا كان المدعي عليه في بلد القاضي وبلغ بالحضور بأعوان القاضي وامتنع عن الحضور وتواري عن الأنظار وتغيب، فإن للقاضي أن يحضره جبراً، فإذا لم يرد إحضاره جبراً أو أراده ولم يمكن هذا الإحضار الجبري، فإن القاضي يجري المرافعة في الدعوي مع غياب المدعي عليه، متبعاً الإجراءات التالية:
أما إذا قال المدعي: لا بينة لي، فإن القاضي بعد أن يسمع الدعوي يعيد النداء على باب المدعي عليه ثانية بأنه سيحكم عليه بالنكول عن اليمين إذا لم يحضر. فإذا لم يحضر المدعي عليه بعد هذا النداء حكم القاضي بنكوله عن اليمين، وردَّ اليمين علي المدعي وحكم له بما ادعي به إذا حلف اليمين.
إذا هرب المدعي عليه بعد سماع البينة لم يؤثر هربه في الحكم، وكان للقاضي أن يقضي عليه وينفذ الحكم الذي يوجبه عليه إذا كانت البينة مقبولة. وإن كانت مما يجب علي المدعي اليمين مع البينة، استحلف القاضي المدعي لأنه يستحلفه وإن لم يطلب ذلك خصمه المدعي عليه في مواضع منها الدين علي الميت والشفعة.
أري أن من الضروري اعتبار تبليغ المدعي عليه حقيقة أو حكماً أمراً لازماً لابد منه لإجراء المرافعة، إذا بهذا التبليغ تتحقق التسوية بين مركز المدعي ومركز المدعي عليه، والمساواة أساس العدل، كما أن بهذه التسوية يمكن أن يدلي كل منهما بما عنده من حجج وبينات وبالتالي يكون حكم القاضي سليماً مبنياً علي هذه البينات. والتبليغ حقيقة يكون بإعلام المدعي عليه بالدعوي وموعد مرافعتها، والتبليغ حكماً يكون بإعلامه بالدعوي وموعد مرافعتها بوسائط النشر، وفي الحاضر بالجرائد اليومية أو الإذاعة. وعلي هذا فإذا اشترط ولي الأمر لسماع الدعوي وسماع البينة تبليغ المدعي عليه حقيقة أو حكماً كان اشتراطه سائغاً شرعاً لاسيما وأن بعض الفقهاء كالحنفية لا يجيزون القضاء على الغائب، فإذا تم التبليغ أمكن إجراء المرافعة غيابياً بحق المدعي عليه إذا لم يحضر المرافعة حفظاً لحقوق الناس من الضياع، ولأنه تبلغ ولم يحضر فهو المضيع لحقه والمتسبب في عدم إسماع حجته للقاضي أو دفعه لحجة خصمه.
كما أني أري لزوم رفع الدعوي إلى محكمة بلد المدعي عليه إلا إذا تعلقت الدعوي بعقار أو منقول فيجوز رفعها إلي محكمة بلد هذا الشيء،أو كانت الدعوي تتعلق بحق نشأ عن عقد أو واقعة فيجوز رفع الدعوي إلى محكمة محل هذا العقد أو الواقعة مع بقاء إمكان رفع الدعوي إلي محكمة محل إقامة المدعي عليه.
Cookie | Duration | Description |
---|---|---|
cookielawinfo-checkbox-analytics | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Analytics". |
cookielawinfo-checkbox-functional | 11 months | The cookie is set by GDPR cookie consent to record the user consent for the cookies in the category "Functional". |
cookielawinfo-checkbox-necessary | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookies is used to store the user consent for the cookies in the category "Necessary". |
cookielawinfo-checkbox-others | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Other. |
cookielawinfo-checkbox-performance | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Performance". |
viewed_cookie_policy | 11 months | The cookie is set by the GDPR Cookie Consent plugin and is used to store whether or not user has consented to the use of cookies. It does not store any personal data. |