برئاسة السيد الأستاذ المستشار/ ربيع عبد المعطي أحمد الشبراوي
نائب رئيس مجلس الدولة
وعضوية السادة الأساتذة المستشارين/ صلاح أحمد السيد هلال، وعبد الحميد عبد المجيد الألفي، وعاطف محمود أحمد خليل، ود. محمود سلامة خليل السيد
نواب رئيس مجلس الدولة
(أ) دعوى– مخاصمة القضاة- دعوى المخاصمة- مفهومها- الحكمة منها- المحكمة المختصة بنظرها- دعوى المخاصمة هي نوع من الرقابة الخاصة على أعمال وتصرفات الهيئة القضائية, وهي مُكْنَة منحها المشرع للمتضرر والدفاع ليتمكن بها من تصحيح أخطاء الهيئة القضائية, فهي دعوى تعويض، وأيضًا دعوى بطلان الحكم, وتعد طريق طعن غير عادي في الأحكام- تستند دعوى المخاصمة إلى قيام القاضي بعمل أو بحكم مشوب بعيب من العيوب التي تتضمنها أسباب المخاصمة, وقد قررها القانون بقصد حماية المتقاضين من القاضي الذي يخل بواجبه إخلالا جسيمًا- وازن المشرع بين حق القاضي في توفير الضمانات له, فلا يتحسب في قضائه سوى وجه الحق, ولا يهتز وجدانه من مظنة النيل منه, ولا يستنفد الجهد في سبيل الرد على من ظن به الجور وآثر الكيد له، وبين حق المتقاضي في الاطمئنان إلى قاضيه, مُقَيَّدًا بالعدل في حكمه، فإن جنح عنه, كان له أن يسلك طريق الخصومة التى يدين بها قَضَاءَهُ ويبطل أَثره- كل هذا يجد حدَّهُ الطبيعي في أن القضاء ولاية تقدير, وأمانة تقرير، وأن مجرد الخلاف أو الخطأ لا يَسْقُطُ بهما منطقُ العدلِ، وإنما يُسْقِطُهُ الجورُ والانحرافُ في القصد- سبب المخاصمة قد يقع من قاضٍ بمفرده، كما قد يقع من دائرة بأكملها- دعوى المخاصمة ضد مستشاري مجلس الدولة تُرفع ابتداء أمام محكمة القضاء الإداري, ويُطعن على الحكم الصادر فيها أمام المحكمة الإدارية العليا، في حين تختص المحكمة الإدارية العليا ابتداء بها إذا تعلق الأمر بأحد أعضائها.
(ب) دعوى– مخاصمة القضاة- دعوى المخاصمة- تنظيمها القانوني وأسبابها- أفرد المشرِّعُ دعوى مخاصمة القضاة بقواعد قانونية خاصة في قانون المرافعات, يجبُ الالتزامُ بها- الفصل في دعوى المخاصمة يتم على مرحلتين: (الأولى) مرحلة الفصل في تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها, و(الثانية) مرحلة الفصل في موضوعها إذا قُضِىَ بجواز المخاصمة، إما برفضها, أو بصحتها والتعويض وبطلان التصرف- حدَّد المشرِّعُ حالات وأسباب المخاصمة على سبيل الحصر، ومنها وقوع الغش والتدليس, والخطأ المهني الجسيم- المقصود بالغش هنا هو ارتكاب القاضي الظلم عن قصدٍ, بدافع المصلحة الشخصية, أو الكراهية لأحد الخصوم, أو محاباة الطرف الآخر، أما الخطأ المهني الجسيم فهو الخطأ الذي ينطوي على أقصى ما يُمكِنُ تصوره من الإهمال في أداء الواجب، ويكون ارتكابُه نتيجة غلطٍ فاضح, ما كان لينساقَ القاضي إليه لو اهتم بواجبه الاهتمام العادي، أو بسبب إهماله إهمالا مُفرطًا يُعبِّرُ عن خطأٍ فاحش, مثل الجهل الفاضح بالمبادئ الأساسية للقانون- لا يُعد خطا مهنيًّا جسيمًا فَهْمُ رجل القضاء للقانون على نحوٍ معين, ولو خالفَ فيه إجماعَ الشراحِ، ولا تقديرُهُ لواقعةٍ معينة, أو إساءةُ الاستنتاج، كما لا يدخل في نطاق الخطأِ المهني الجسيم الخطأُ في استخلاصِ الوقائع أو في تفسيرِ القانون, أو قصورُ الأسباب- يخرجُ عن نطاق هذا الخطأِ كلُّ رأيٍ أو تطبيقٍ قانوني يخلُصُ إليه القاضي بعد إمعانِ النظر والاجتهاد في استنباط الحلول للمسألة القانونية المطروحة, ولو خالفَ في ذلك أحكامَ القضاء وآراءَ الفقهاء- رتَّبَ المشرِّعُ على القضاءِ بعدمِ جوازِ المخاصمةِ, أو رفضِها, الحكمَ على طالبِ المخاصمةِ بالغرامةِ, ومصادرةِ الكفالةِ, مع التعويضاتِ إن كان لها وجهٌ، ورتَّبَ على القضاءِ بصحتِها الحكمَ على القاضي المخاصَمِ بالتعويضاتِ والمصاريفِ, وبطلان تصرفِه.
– المواد من (494) إلى (497) و(499) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968.
– المادة (الثالثة) من القرار بقانون رقم 47 لسنة 1972 بشأن إصدار قانون مجلس الدولة.
(ج) دعوى– مخاصمة القضاة- دعوى المخاصمة- حدود سلطة المحكمة التي تنظرها- المحكمة التي تفصل فيها ليست محكمةَ طعنٍ بالنسبة للحكم الصادر في الخصومة الأصلية، ولا تملك التعقيب عليه من حيث الواقع والقانون, إلا بالقدر المتعلق بأوجه المخاصمة, لبيان ما إذا كان هناك خطأ مهني جسيم صدر عن القاضي المخاصَمِ.
(د) هيئة الشرطة– شئون الضباط- واجباتهم- الالتزام بواجبات الحياة النظامية- لا يجوز للضابط إطلاق لحيته؛ لتعارض ذلك مع الحياة النظامية، وطبقا للتعليمات الصادرة عن وزارة الداخلية- إطلاق اللحية ليس فرضًا, بل يدخلُ في دائرة المباح شرعًا والمكفول بالحماية الدستورية، وهو من الأمور التي لا تندرج تحت قاعدة كلية أو جزئية من واقع الشريعة الإسلامية قطعية الثبوت والدلالة، فيكون لولي الأمر عن طريق التشريع الوضعي تنظيمها بما يتفق ومصلحة الجماعة- مخالفة ما قرره ولي الأمر في هذا الخصوص تعد خروجا على مقتضى الواجب الوظيفي، يستوجب المسئولية التأديبية.
في يوم الأحد الموافق 23/2/2014، أودع المخاصِم قلم كتاب المحكمة تقريرًا بدعوى المخاصمة لكل من رئيس وأعضاء الدائرة الرابعة (موضوع) بالمحكمة الإدارية العليا (المذكورين سالفًا)، طالبًا في ختامها الحكم بقبول الدعوى شكلا، والقضاء مجددًا ببطلان الحكم محل المخاصمة (الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية العليا- الدائرة الرابعة موضوع بجلستها المنعقدة في 11/1/2014 في الطعن رقم 20546 لسنة 59 ق ع)([2]), والقضاء مجددا فيه -لكونه صالحًا للحكم- عملا بنص المادة (499) من قانون المرافعات، مع عدم إلزامه أي مصروفات.
وقد تم إعلان تقرير المخاصمة إلى القضاة المخاصَمين وفضيلة شيخ الأزهر، على النحو المبين بالأوراق.
وأعدت هيئة مفوضي الدولة تقريرًا بالرأي القانوني, ارتأت فيه الحكم بعدم جواز المخاصمة، وبتغريم المخاصِم، وإلزامه المصروفات، وبمصادرة الكفالة.
ونظرت المحكمة الدعوى على الوجه الثابت بمحاضر الجلسات، وأرجأت المحكمة إصدار الحكم لجلسة اليوم، وفيها صدر هذا الحكم، وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه لدى النطق به.
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
وحيث إن وقائع الدعوى تخلص -حسبما يبين من الأوراق- في أنه بتاريخ 14/5/2013 أقام المخاصِم الطعن رقم 20546 لسنة 59ق. عليا أمام المحكمة الإدارية العليا (الدائرة الرابعة), طالبًا الحكم بقبول الطعن شكلا، وبإلغاء قرار مجلس التأديب الاستئنافي لضباط الشرطة الصادر بجلسة 28/4/2013 برفض الاستئناف رقم 78 لسنة 2013، وتأييد القرار المستأنَف (الصادر من مجلس التأديب الابتدائي بجلسة 8/7/2012 برقم 27 لسنة 2012) فيما تضمنه من مجازاة المخاصِم بالوقف عن العمل لمدة ستة أشهر، مع صرف نصف راتبه، وعدم صرف نصف راتبه الموقوف صرفه أثناء فتره الإيقاف عن العمل لمصلحة التحقيق.
وبجلسة 11/1/2014 قضت المحكمة الإدارية العليا (الدائرة الرابعة- موضوع) بقبول الطعن شكلا، وبتعديل قرار مجلس التأديب المطعون فيه ليكون بمجازاة الطاعن (المخاصِم) بخصم خمسة أيام من أجره.
………………………………………………….
وإذ تراءى للمخاصِم أن هيئة المحكمة الإدارية العليا (الدائرة الرابعة- موضوع) قد خرجت على مقتضى الحيدة والعدالة فيما أصدرته من حكم على النحو السالف، فقد أقام دعواه الماثلة بمخاصمة السادة: رئيس، وأعضاء الهيئة (المذكورين سالفًا) على سندٍ من القول بالغش والتدليس، والخطأ المهني الجسيم من جانب القضاةِ المخاصَمين، وذلك لأسباب حاصلها:
1- أن المحكمة بحكمها بإدانته بمخالفة قواعد وتعليمات مرفق الشرطة بالالتزام بزي خاص وبالمظهر اللائق، وَبِزَعمِ حطِّه من كرامة وظيفته طبقًا للعرف العام -بحسبانه مُعْفِيًا للحيته على وفق سنةٍ قولية وعملية لرسول الإسلام- تكون قد تعمدت ازدراء ما هو معلوم بالضرورة بالدين الإسلامي، على وفق ما أقرته اللجنة المختصة بالأزهر الشريف بفتواها (وهو ما كان تحت بصر المحكمة) من أن حالق اللحية مقارف إما للإثم أو للكراهة، فَبَدَا الحكم بمظهرِ المزْدَري أو المستَهْجن, وهو ما يتفرع عنه اقتراف الجريمة المؤثمة بالمادتين (161) و(171) من قانون العقوبات؛ إذ الدليلُ على وجوبِ إعفاء اللحية واستحبابه سنةٌ مؤكدة، قطعيٌة في ثبوتها ودلالتها.
2- التزوير في الصفحة الثانية بالحكم الصادر ضده، وذلك بتعديل بداية الشطر الوارد بقضاء دائرة توحيد المبادئ ونهايته بشأن ارتداء النقاب للمرأة المسلمة, بقصد إخفاء مبدأ قانوني بشأن (الدين- الزي المباح شرعًا)، وبما يَصُبُّ سياقُه في صوب المبالغة في تحصين قيود الإدارة على أزياء تابعيها, فلا يُقْبَلُ من ثم انتهاكُها بإعفاء اللحية بعد أن عدوها من الزي.
3- إثباتُ دفاعٍ للطاعنِ خلا منه ملفُّ الطعن, بالدفع بالغلو في الجزاء الموقع عليه, بما ينطوي على إقرار زائف منه بالمخالفة, وذلك على النحو المبين تفصيلا بتقرير المخاصمة.
………………………………………………….
وحيث إن دعوى المخاصمة هي نوع من الرقابة الخاصة على أعمال وتصرفات الهيئة القضائية, أو هي مُكنة منحها المشرع للمتضرر والدفاع ليتمكن بواسطتها من تصحيح أخطاء الهيئة القضائية، ذلك أن دعوى المخاصمة هي دعوى تعويض، وهي أيضًا دعوى بطلان الحكم، وتستند إلى قيام القاضي بعمل أو بحكم مشوب بعيب من العيوب التى تتضمنها أسباب المخاصمة, أو هي طريق طعن غير عادى في الأحكام قرره القانون بقصد حماية المتقاضين من القاضي الذي يخل بواجبه إخلالا جسيمًا, وسبب المخاصمة قد يقع من قاضٍ بمفرده، كما قد يقع من دائرة بكاملها، وهنا يمكن مخاصمة قاضٍ واحد أو مخاصمة دائرة بأكملها, فالخطأ المهني الجسيم الذي يمثل أحد أسباب المخاصمة قد يقع من قاضٍ واحد, كما قد يقع من دائرة بأكملها، وحينئذ يمكن أن تتم المخاصمة بالنسبة للقاضي بمفرده أو للدائرة بأكملها. ومن المقرر أن دعوى المخاصمة ضد مستشاري مجلس الدولة تُرفع ابتداء أمام محكمة القضاء الإداري, ويُطعن على الحكم الصادر في دعوى المخاصمة أمام المحكمة الإدارية العليا، ولا تختص المحكمة الإدارية العليا ابتداء إلا إذا تعلق بمستشار من المحكمة الإدارية العليا. (بهذا المعنى قضت المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 2645 لسنة 33ق عليا بجلسة 6/3/1988, والطعن رقم 2745 لسنة 36ق عليا بجلسة 29/6/1991, والطعن رقم 18223 لسنة 50ق عليا بجلسة 24/2/2007).
وحيث إنه يبين من الاطلاع على نصوص المواد (494)، (495)، (496)، (497), (499) من قانون المرافعات المدنية والتجارية (وهو القانون المطبق في شأن إجراءات وشروط مخاصمة قضاة محاكم مجلس الدولة طبقًا لحكم الإحالة المنصوص عليه في المادة الثالثة من مواد إصدار القانون رقم 47 لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة) يبين أن المشرع وازن بين حق القاضي في توفير الضمانات له، فلا يتحسب في قضائه سوى وجه الحق, ولا يهتز وجدانه من مظنة النيل منه، ولا يستنفد الجهد في سبيل الرد على من ظن به الجور وآثر الكيد له، وبين حق المتقاضي في الاطمئنان إلى قاضيه مُقَيَّدًا بالعدل في حكمه، فإن جنح عنه لم تغلق الأبواب في وجهه، فله أن يسلك طريق الخصومة التى يدِينُ بها قَضَاءَهُ ويُبْطِلُ أَثَرَهُ، وكل هذا يجد حدَّهُ الطبيعي في أن القضاء ولاية تقدير وأمانة تقرير، وأن مجرد الخلاف أو الخطأ لا يَسْقُطُ بهما منطقُ العدلِ، وإنما يُسْقِطُهُ الجورُ والانحرافُ في القصد، وعليه وجب الالتزام بالقواعد القانونية المنصوص عليها في المواد المذكورة سالفًا، والتي من بينها أن الفصل في دعوى المخاصمة يتم على مرحلتين:
(الأولى) مرحلة الفصل في تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها.
و(الثانية) مرحلة الفصل في موضوعها -إذا قُضِي بجواز المخاصمة- إما برفضها أو بصحتها والتعويض وبطلان التصرف.
وقد حدد المشرع حالات وأسباب المخاصمة على سبيل الحصر، ومنها وقوع الغش والتدليس, والخطأ المهني الجسيم، والمقصود بالغش في هذا المقام هو ارتكاب القاضي الظلم عن قصد بدافع المصلحة الشخصية أو الكراهية لأحد الخصوم أو محاباة الطرف الآخر، أما الخطأ المهني الجسيم فهو الخطأ الذي ينطوي على أقصى ما يمكن تصوره من الإهمال في أداء الواجب، ويكون ارتكابُه نتيجة غلطٍ فاضح ما كان لينساقَ إليه لو اهتم بواجبه الاهتمام العادي، أو بسبب إهماله إهمالا مُفرطًا يُعبِّر عن خطأٍ فاحش مثل الجهل الفاضح بالمبادئ الأساسية للقانون، ومن ثم لا يعد خطا مهنيًّا جسيمًا فهْمُ رجلِ القضاء للقانون على نحوٍ معين ولو خالفَ فيه إجماعَ الشُراحِ، ولا تقديرُهُ لواقعةٍ معينة أو إساءةُ الاستنتاجِ، كما لا يدخلُ في نطاق الخطأِ المهني الجسيم الخطأُ في استخلاص الوقائع أو في تفسير القانون أو قصور الأسباب، ومن ثم يخرجُ عن نطاق هذا الخطأ كلُّ رأيٍ أو تطبيق قانوني يخلُصُ إليه القاضي بعد إمعان النظر والاجتهاد في استنباط الحلول للمسألة القانونية المطروحة ولو خالفَ في ذلك أحكامَ القضاءِ وآراءَ الفقهاء، ولهذا رتَّب المشرِّعُ على القضاءِ بعدمِ جوازِ المخاصمةِ أو رفضِها الحكمَ على طالبِ المخاصمة بغرامةٍ لا تقلُّ عن (أربع مِئة جنيه) ولا تزيد على (أربعة آلاف جنيه) ومصادرة الكفالة مع التعويضات إن كان لها وجه، كما رتَّب على القضاءِ بصحةِ المخاصمةِ الحكمَ على القاضي المخاصَمِ بالتعويضات والمصاريف وبطلان تصرفه. (يراجع حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 2476 لسنة 39ق عليا بجلسة 19/2/1994, وكذا حكم الدائرة الأولى بالمحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 18223 لسنة 50ق عليا بجلسة 24/2/2007).
وحيث إنه من المقرَّر أن المحكمة التي تفصل في دعوى المخاصمة ليست محكمةَ طعنٍ بالنسبة للحكم الصادر في الخصومة الأصلية، ولا تملك التعقيبَ عليه من حيث الواقع والقانون, إلا بالقدر المتعلق بأوجه المخاصمة, لبيان ما إذا كان هناك خطأ مهني جسيم صدر عن القاضي المخاصَمِ.
متى كان ذلك كذلك، فإنه استهداءً بالقواعد والأحكام المذكورة سالفًا، وكان الثابت من الأوراق أن المخاصِمَ قد أقام دعواه الماثلة بمخاصمة هيئة المحكمة الإدارية العليا (الدائرة الرابعة- موضوع) المبينة أسماؤهم بصدر هذا الحكم، مُحَدِّدًا أسبابَ المخاصمة بأنها الغش والتدليس، والخطأ المهني الجسيم, دون أن يقيم الدليل على سوء نية هؤلاء القضاة أو ارتكابهم لأي وقائعٍ ثابتة ومُحَدَّدة تدلُّ بذاتها على وقوع الغش والتدليس المدعى به, ذلك أن أوراق التداعي قد خلت مما يفيد صدورَ إفتاءٍ عن الأزهر الشريف باعتبار إطلاقِ اللحيةِ فريضةً أو يُكْرَهُ تركُها عند جمهور الفقهاء, حتى يكون القضاة المخاصَمِينَ على بينةٍ من ذلك الإفتاء، ومن ثم يكون الحكمُ المخاصَمُ، وقد خلص إلى تقرير مخالفة المخاصِمِ للأوامر والتعليمات الصريحة -في هذا الصدد- الواردة بالكتاب الدوري رقم 3 سنة 2012 الصادر عن وزارة الداخلية بتاريخ 14/2/2012 من ضرورة العناية بالمظهر العام من حيث (1) ارتداء الزي الرسمي على وجه لائق (2) العناية بالمظهر الشخصي من حيث قص الشعر وحلاقة الذقن بما يتلاءم ومقتضيات الزي الرسمي، إذ تكوَّنت عقيدةُ المحكمةِ المخاصَم قضاتها على تحقق قيام الذنب الإداري للمخاصِمِ, بحسبانه لم يلتزم تلك التعليمات, وأنه لم يكن باعثُه على إطلاقِ لحيته تكليفًا مفروضًا عليه في الشريعة الإسلامية بحيث يُأْثَمُ تاركه, بحسبان أن حكم إطلاق اللحية -من وجهٍ- قد اختلف الفقهاءُ في حكمه قديمًا وحديثًا, وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية -في هذا الخصوص- عدة فتاوى عبر العصور, فذهب فريق إلى أنه من سُنّةِ العادات، وليس من الأمور العبادية، وأن الأمرَ بإطلاقها أو إعفائها وتوفيرها أمرُ إرشادٍ لا أمرُ وجوبٍ أو استحباب -وهو ما ذهب إليه بعض المتأخرين-، وعلى هذا جرى الأغلب من علماء الأزهر الشريف عملا، وهم نجوم الهدى للعالم، في حين ذهب فريق إلى أنها من سنن الندب، ويرى فريق آخر وجوب إطلاق اللحية وحرمة حلقها، وجرت عادة العسكر من شرطة وجيش منذ مئات السنين على حلق لحاهم، فلم تتحول هذه المسألة إلى قضية تُثير ضجة حول مدى الطاعة والخروج عن التعليمات, بل كانت لاختلاف العلماء فيها -كما تقدم- مندرجةً دائمًا تحت قاعدة: “لا ينكر المختلف وإنما ينكر المختلف فيه”, ومن ارتضى أن يدخل إلى كليات الشرطة يكون قد اختار ما اختارته إدارة الشرطة في هذا الأمر؛ لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، واختيار ما اختارته إدارة الشرطة في هذا الأمر جائز لأنه من الأمور المختلف فيها، والتي يجوز تقليد الرأي المجيز فيها عند الممارسة والتلبس، لأن من ابْتُلِيَ بشيءٍ من المختلف فيه قلَّدَ من أجاز؛ تخلصًا من الحرمة، فإن تغيَّرَ اختيارُهُ فله أن ينتقل إلى إدارة غير شرطية، وعلى قاعدة أن الخروجَ من الخلافِ مُستحَبٌ, وعلى الأفراد الالتزام بالتعليمات إلى حين ذلك التغيير إن تم.
ومن وجهٍ آخر: فقد اطرد قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن ما نص عليه الدستور من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, إنما يتمخض عن قيد يجب على السلطة التشريعية أن تتحراه وتنزل عليه في تشريعاتها الصادرة، فلا يجوز لنص تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعًا, لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية، وأصولها الثابتة, التى لا تحتمل تأويلا أو تبديلا، ومن غير المتصور تبعًا لذلك أن يتغير مفهومها بتغير الزمان أو المكان، إذ هي عصية على التعديل، ولا يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها، أما الأحكام غير القطعية في ثبوتها أو دلالتها أو فيهما معًا، فإن باب الاجتهاد يتسع فيها لمواجهة تغير الزمان والمكان، وتطور الحياة وتنوع مصالح العباد، وهو اجتهاد إن كان جائزًا ومندوبًا من أهل الفقه, فهو بذلك أوجب لولي الأمر, ليواجه به ما تقتضيه مصلحة الجماعة درءًا لمفسدة أو جلبًا لمنفعة, أو درءًا وجلبًا للأمرين معًا. (القضية رقم 119 لسنة 21 القضائية دستورية بجلسة 19/12/2004, أيضًا حكمها في القضية رقم 69 لسنة 22 القضائية دستورية بجلسة 13/2/2005).
كما أنه من المقرر أن الآراء الاجتهادية ليس لها -في ذاتها- قوة ملزمة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز تبعًا لذلك اعتبارها شرعًا ثابتًا متقررًا لا يجوز أن يُنْقَضَ, وإلا كان ذلك نهيًا عن التأمل والتبصر في دين الله تعالى، وإنكارًا لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد, بل إنّ مِنَ الصحابة من تردد في الفُتْيَا تهيبًا، ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع مِنَ اجتهادِ غيره، وربما كان أضعف الآراء سندًا، أكثرها ملاءمةً للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفًا لأقوال استقر عليها العمل زمنًا، ولئن جاز القول بأن الاجتهادَ في الأحكام الظنية، وربطَها بمصالح الناس عن طريق الأدلة الشرعية (النقلية منها والعقلية) حقٌّ لأهل الاجتهاد, فأولَى أن يكون هذا ثابتًا لولي الأمر، يستعين عليه في كل مسألة بخصوصها وبما يناسبها بأهل النظر في الشئون العامة، إخمادًا للثائرة، ولما يرفع التنازع والتناحر ويبطل الخصومة, على أن يكون مفهومًا أن اجتهادات السابقين لا يجوز أن تكون مصدرًا نهائيًّا أو مرجعًا وحيدًا لاستمداد الأحكام العملية منها, بل يجوزُ لولي الأمر أن يُشَرِّعَ على خلافها، وأن ينظم شئون العباد في بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة, بما يَرُدُّ الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله، مستلهمًا في ذلك حقيقة أن المصالح المعتبرة، هي التي تكون مناسبة لمقاصد الشريعة متلاقية معها، وهي بعد مصالح لا تتناهى جزئياتها أو تنحصر تطبيقاتها، ولكنها تتحدد -مضمونًا ونطاقًا- على ضوء أوضاعها المتغيرة, وليس ذلك إلا إعمالا للمرونة التي تسعها الشريعة الإسلامية في أحكامها الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور، والتي ينافيها أن يتقيد ولي الأمر في شأنها بآراء بذاتها لا يريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده بصددها عند لحظة زمنية معينة، تكون المصالح المعتبرة شرعًا قد جاوزتها. (القضية رقم 5 لسنة 8 قضائية دستورية بجلسة 6/1/1996).
لما كان ذلك، وكان إطلاق اللحية من سنة العادات وليس من الأمور العبادية في قول بعض الفقهاء، فإطلاق اللحية ليس فرضًا, وإنما يدخل في دائرة المباح شرعًا والمكفول بالحماية الدستورية, (في هذا المعنى: دار الإفتاء المصرية- أمانة الفتوى- الفتوى الصادرة بتاريخ 21/2/2012، والمذكورة سالفًا، ردًا على التساؤل الوارد إليها بكتاب قطاع التفتيش والرقابة بوزارة الداخلية عن مدى أحقية الجهة الإدارية النظامية كالشرطة في إلزام الضابط بعدم إطلاق لحيته لتعارض ذلك مع الحياة النظامية، وإلزامه بالتعليمات التى تصدر عن رؤسائه إنفاذًا للقانون), ومن ثم فهي من الأمور التى لا تندرج تحت قاعدة كلية أو جزئية من واقع الشريعة الإسلامية قطعية الثبوت والدلالة، ومن ثم يكون لولي الأمر عن طريق التشريع الوضعي تنظيمها بما يتفق ومصلحة الجماعة، ما تضحى معه مظنة ازدراء الدين الإسلامي التى زعمها المخاصِمُ في الحكم محل المخاصمة على غير سند أو دليل, فضلا عن أن مخالفة ولي الأمر -في هذا الخصوص- هي خروج عن مقتضى الواجب الوظيفي، تستوجب المسئولية التأديبية بالعقاب التأديبي المناسب، وهو ما فعله الحكم محل المخاصمة بصحيح حكم القانون.
– وحيث إنه فيما نقله الحكمُ محل المخاصمة عن المبدأ الذي قرره حكم دائرة توحيد المبادئ بالمحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 3219 لسنة 48ق عليا بجلسة 9/6/2007, من أنه “إذا كان ارتداء النقاب بالنسبة للمرأة المسلمة هو أحد مظاهر الحرية الشخصية، فإن هذه الحرية لا ينافيها أن تلتزم المرأة المسلمة وهي في دائرة بذاتها بالقيود التى تضعها الجهة الإدارية أو المرفق على الأزياء التى يرتديها بعض الأشخاص في موقعهم من هذه الدائرة لتكون لها ذاتيتُها فعلا, فلا تختلطُ أَرْدِيَتُهُمْ بغيرها, بل ينسلخون في مظهرهم عمن سواهم, ليكون زيهم مُوحَّدًا مُتجانِسًا ولائِقًا بهم، دالًّا عليهم ومُعرِّفًا بهم ومُيَسِّرًا صورَ التعامل معهم، فلا تكون دائرتُهم هذه نهبًا لآخرين يقتحمونها غيلةً وعدوانًا، ليلتبس الأمر في شأن من ينتمون إليهم حقًّا وصدقًا، كما هو الشأن بالنسبة للقوات المسلحة والشرطة والمستشفيات وغيرها”- هذا الذي نقله الحكمُ إنما هو من قبيل الاستنباط والقياس, الذي لا يسقط منطق العدل, سواء استخلاصًا منه للواقع, أو تفسيرًا للقانون, أو استنباطًا للحلول للمسألة القانونية المطروحة، ولو خالف في ذلك أحكامًا للقضاء أو آراءً للفقه؛ إذ العبرة ليست بالألفاظ والمباني بل بالمقاصد والمعاني، فلا يسوغُ نسبةُ الخطأِ المهني الجسيم للمحكمة الإدارية العليا مادام لم يكن خطا بينًا كاشِفًا عن أمره, بحسبانها على مستوى القمة في مدارج التنظيم القضائي, بما عهد إليها من أمانة القضاء وعظيم رسالاته وإرساء الصحيح من المبادئ في تفسير القانون واستلهام أحكامه.
متى كان ذلك، وقد راعى الحكمُ المخاصَمُ -بعد ذلك- مشروعية الباعث الذي قام لدى المخاصِمِ, بالإضافة إلى الغلو البين في توقيع الجزاء عليه، وخلص إلى تخفيف الجزاء الموقع عليه دونما حاجة إلى دفع منه بذلك -حسبما نعى المخاصِمُ بمخاصمته الماثلة-, فإن الحكم محل المخاصمة -والحال هذه- يكون قد جاء بعد إمعان نظر واجتهاد القضاة المخاصَمين في استنباط الحلول للمسألة القانونية المطروحة دون حَيْفٍ أو جَوْرٍ، ما تنتفي معه صحة سبب دعوى مخاصمة القضاة الواردة أسماؤهم بصحيفة الدعوى الماثلة، ومن ثم فإن المحكمة تقضى -والحال هذه- بعدم جواز قبول دعوى المخاصمة الماثلة, وبتغريم المخاصِمِ مبلغَ (خمس مِئة جنيه) عن كل عضو من أعضاء هيئة المحكمة محل المخاصمة ليكون بمبلغ إجمالي (ألفان وخمس مِئة جنيه), وبمصادرة الكفالة.
وحيث إن من خسر الدعوى يلزم مصروفاتها عملا بحكم المادة (184) من قانون المرافعات.
حكمت المحكمة بعدم قبول دعوى المخاصمة، وبمصادرة الكفالة، وتغريم المخاصِم مبلغ (خمس مِئة جنيه) عن كل عضو من الأعضاء المخاصَمين, وألزمته المصروفات.
([1]) الحكم محل دعوى المخاصمة الصادر في الطعن رقم 20546 لسنة 59 القضائية (عليا) منشور بمجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا في السنة 59، مكتب فني، المبدأ رقم 27).
([2]) منشور بمجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا في السنة 59، مكتب فني، المبدأ رقم 27.
Cookie | Duration | Description |
---|---|---|
cookielawinfo-checkbox-analytics | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Analytics". |
cookielawinfo-checkbox-functional | 11 months | The cookie is set by GDPR cookie consent to record the user consent for the cookies in the category "Functional". |
cookielawinfo-checkbox-necessary | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookies is used to store the user consent for the cookies in the category "Necessary". |
cookielawinfo-checkbox-others | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Other. |
cookielawinfo-checkbox-performance | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Performance". |
viewed_cookie_policy | 11 months | The cookie is set by the GDPR Cookie Consent plugin and is used to store whether or not user has consented to the use of cookies. It does not store any personal data. |