ولاية القاضي في القضاء تنتهي وتزول فلا شئ في الحياة الدنيا يدوم، فكل شيء فيها إلى الفناء … وزوال ولاية القاضي وانتهاؤها قد تكون بعزله وقد تكون بانعزاله وقد تكون باستقالته ، وإذا لم يحصل واحد من هذه الأسباب زالت عنه وظيفة القضاء بالموت.
وبالتالي سوف نتناول انتهاء ولاية القاضي تحت عنوانين،
إذا عين الخليفة قاضياً فهل يملك عزله متي شاء حتي مع صلاح حاله وكفاءته لوظيفة القضاء؟
القول الأول: نعم، يجوز للخليفة أن يعزله وهذا قول الحنفية والظاهرية والمالكية، والراحج عند الحنابلة، و الشافعية، إلا أن الشافعية قيدوا ذلك بوجود المصلحة في العزل وعدم تعين تولي القضاء على القاضي المراد عزله.
القول الثاني: ليس للخليفة عزل القاضي وهذا هو القول المرجوح عند الحنابلة والشافعية.
أولاً: القاضي يستمد ولايته من عامة المسلمين، لأنهم هم الذين أسندوا إليه ولاية القضاء فهو في الحقيقة نائبهم ووكيلهم فيها، وما دور الخليفة في إصدار أمره بتعيين القاضي أو عقده ولاية القضاء له إلا بمنزلة الرسول عن عامة المسلمين، ثم إن عامة المسلمين أذنوا للخليفة دلالة بعزل القاضي كما أذنوا له بتعيينه وتعيين من يخلف القاضي المعزول إذا ما رأي المصلحة في عزله وتعيين غيره بدله، فعزل القاضي في الحقيقة لم يتم من قبل الخليفة وإنما من قبل عامة المسلمين الذين أذنوا له بذلك.
وهذه هي حجة الحنفية وتوجيههم جواز عزل القاضي، وتكييفهم لمركز القاضي ودور الخليفة في عملية العزل.
ثانياً: ثبت أن النبي بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن قاضياً ثم صرفه عن ولاية القضاء حين حجة الوداع ولم يرجع إلي اليمن بعدها. وهذا دليل حق الإمام في عزل القاضي. وهذه هي حجة الظاهرية.
ثالثاً: القاضي في نظر المالكية يعتبر نائب الإمام أو الخليفة الذي ولاه وظيفة القضاء، فمركزه الشرعي مركز النائب والوكيل، والموكل يملك عزل وكيله فكذا الخليفة يملك عزل القاضي الذي ولاه ولاية القضاء لأنه نائبه ووكيله، وهذه هي حجة المالكية. وهي أيضا حجة الشافعية في قولهم الراجح مضيفين إليها قولهم إن عقد تقليد القضاء من العقود الجائزة لا اللازمة لأنه استنابة كالوكالة ويجوز للمنيب عزله نائبه.
رابعاً: أن الخلفاء الراشدين عزلوا قضاتهم، فقد عزل عمر بن الخطاب قاضيه على البصرة وعين مكانه كعب بن سوار، وولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي ثم عزله. ثم إن الخلفاء الراشدين كانوا يعهدون بولاية القضاء إلي بعض أمراء الأمصار ثم يعزلونهم، فعزل القاضي الذي لا يملك إلا ولاية القضاء أولي بالجواز. وأيضاً فإن عزل القاضي لا ضرر فيه على الناس لأن الخليفة عادة لا يعزل قاضياً إلا ويولي آخر مكانه. وهذه هي حجة الحنابلة في قولهم الراحج.
أولاً: أن عقد تقليد القضاء للقاضي إنما عقده الخليفة لمصلحة المسلمين، فلا يملك الخليفة نقض هذا العقد بعزل القاضي مع صلاح حاله.
ثانياً: أن القاضي بتقلده القضاء صار قاضياً من جهة الله تعالي فلا ينعزل بعزل الخليفة له. وهذه حجة الشيخ القفال رحمه الله وهو من فقهاء الشافعية.
ويلاحظ هنا أن المقصود بكلام القفال رحمه الله أن القاضي صار قاضياً من جهة الله تعالي، معناه أن القاضي يباشر القضاء بولاية عامة المسلمين ولمصالحهم العامة. لأن ما يضاف إلى الله تعالي في اصطلاح الفقهاء عندما يتكلمون عن الحقوق والولايات يعنون به حق عامة المسلمين وما يتعلق بمصالحهم العامة. ويقرب من قول القفال قول الفقيه الرملي الشافعي رحمه الله تعالي:”ولأن الإمام إنما يولي القضاء نيابة عن المسلمين”.
والراجح هو قول الجمهور، فللخليفة الحق في عزل القاضي الذي ولاه هو أو غيره وظيفة القضاء للأدلة التي ساقوها وذكرناها عنهم، ولكن هذا الرجحان الذي نذهب إليه مقيد بوجود المصلحة الشرعية في عزل القاضي لأن تصرف الإمام منوط بالمصلحة فإذا عري منها لم يجز ديانة. ولأن في عزل القاضي – كما يقول الفقيه ابن عرفة المالكي – (توهيناً لحرمة القضاء). ولكن مع هذا كله لو عزل الخليفة القاضي بلا مصلحة ظاهرة كما لو عين بدله من هو أقل منه كفاءة وصلاحاً فإن العزل ينفذ مع إثم الخليفة.
وإذا تحرى الخليفة المصلحة في عزل القاضي فهل من موجبات المصلحة عزله أو إعفاؤه من وظيفة القضاء لبلوغه سناً معينة تكون قرينة على عجزه عن ممارسة القضاء، أو يترك ذلك إلى حصول العجز الفعلي المشهود الذي يبرر إعفاءه، من وظيفة القضاء؟ لم أقف على قول للفقهاء في هذه المسألة أي إني لم أجد أحداً صرح بأن بلوغ القاضي سناً معينة يقضي عزله باعتبارها قرينة على عجزه. ومع هذا، يبدو لي أن من الممكن تعيين مثل هذه السن التي تكون قرينة على عجز القاضي عن ممارسة وظيفة القضاء مع جواز تمديدها إلى مدة معينة أخرى إذا رغب القاضي واقتنع الخليفة أو من يخوله بقدرته على أعمال القضاء.
والجواب أن الفقهاء جميعاً متفقون على أن موت الخليفة لا يؤدي إلى انعزال القاضي، ويعللون ذلك بأن القاضي هو، في الحقيقة، نائب ووكيل عن الأمة لا عن الخليفة حسب التكييف الذي ذكرناه عن الحنفية لكل من مركز الخليفة والقاضي ودور الخليفة في عملية عزل القاضي. أما على رأي غير الحنفية الذين يصرحون بأن القاضي نائب ووكيل عن الخليفة، فإنهم يعللون عدم انعزال القاضي بموت الخليفة بأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم عينوا قضاة في زمانهم فلم ينعزلوا بموتهم. ولا شك أن عمل الخلفاء الراشدين يمكن الاحتجاج به شرعاً لاسيما إذا لم يظهر له مخالف كما في مسألتنا هذه. ثم إن القول بانعزاله بموت الخليفة ضرر ظاهر بالمسلمين لشغور منصب القاضي إلى أن يعين الخليفة الجديد قاضياً جديداً، والضرر مرفوع في الشريعة بحكم الشريعة، ورفعه يتم ببقاء القضاة في مناصبهم وعدم انعزالهم بموت الخليفة.
ولا ينعزل القاضي إذا خلع الخليفة أو تنازل هو عن الخلافة جبراً أو رضاء واختياراً لأن هذا الخلع أو التنازل لا يكون أكثر من الموت، وموت الخليفة لا يؤدي إلي انعزال القاضي فكذا خلعه أوتنازله.
قلنا إن الراجح هو جواز عزل القاضي من قبل الخليفة لمصلحة يراها، ولكن متي يعتبر عزل الخليفة للقاضي نافذاً؟ هل يعتبر نافذاً من تاريخ صدور أمر العزل أم من تاريخ تبلغ القاضي به؟
والجواب على ذلك لا يعتبر عزل القاضي نافذاً إلا من تاريخ تبلغه بالعزل كما لو تسلم أمر العزل التحريري. ويترتب على ذلك أن أحكام هذا القاضي المعزول التي أصدرها بعد صدور أمر العزل وقبل تسلمه أمر العزل تعتبر صحيحة. ولا شك أن هذا القول يصون مصالح الناس.
وعن الإمام أبي يوسف رحمه الله تعالي: لا ينعزل وإن علم بعزله وبلغه أمر العزل حتي يتقلد غيره القضاء بدله صيانة لحقوق العباد. ولأن أبا يوسف رحمه الله تعالي اعتبر القاضي بمنزلة إمام الجمعة، وإمام الجمعة إذا عزل لا ينعزل ولو بلغه أمر العزل حتي يعين بدله إمام آخر ويباشر عمله فعلاً. والواقع أن أساس قول الإمام أبي يوسف هو رعاية مصلحة الناس وعدم إبقاء منصب القاضي شاغراً، ولكن يمكن القول بانعزال القاضي إذا بلغه أمر العزل إذا كان في منطقته قاض آخر يمكن للناس مراجعته في قضاياهم.
إذا تغير حال القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من مباشرة عمل القضاء، أو ثبوت تعمده الجور أو ثبوت تعمده مخالفة أحكام الشرع، أو ثبوت ارتشائه، أو ظهور عدم كفائته بكثرة أخطائه، فإنه في هذه الأحوال يستحق العزل ويتعين على الإمام عزله.
ولكن هل ينعزل القاضي بنفس الفسق ونحوه من موجبات عزله إذا تحقق واحد منها في القاضي أم لا ينعزل حتي يعزله الخليفة؟
قال الفقيه المازري المالكي: الراجح عدم العزل حتي يعزله الإمام. وقال غيره من فقهاء المالكية ينعزل بنفس الفسق ونحوه من موجبات العزل ولا يشترط لانعزاله عزل الخليفة له.
والراجح عندي أنه ينعزل بالجنون دون توقف على صدور أمر الخليفة بعزله لأنه مع الجنون لا يحتمل بقاؤه ولا مصلحة في هذا البقاء، وأما في غير الجنون من موجبات العزل، فأري عدم انعزاله حتي يعزله الخليفة استقراراً للأحكام ورعاية لمصلحة الناس.
إذا كان تقليد القضاء لشخص تقليداً خاصاً ليقضي في خصومة معينة وبين أطراف هذه الخصومة، فإنه ينعزل بحسم هذه الخصومة وانتهائها كما ذكرنا عند كلامنا عن ولاية القاضي. ولهذا لو تجدد لنفس هؤلاء الخصوم دعوي أو خصومة جديدة لم يكن للقاضي الذي نظر خصومتهم الأولي أن ينظر خصومتهم الجديدة إلا بتقليد جديد أي بتعيين جديد لوظيفة القضاء لانعزاله من هذه الوظيفة بانتهاء الخصومة الأولي.
جاء في الفتاوي الهندية في فقه الحنفية: “ومن حق السلطان أن ينظر إلي هذا القاضي إذا مضي عليه حول فيقول:”لا فساد فيك ولكن أخشي عليك أن تنسي العلم، فعد وأدرس العلم ثم عد إلينا حتي نقلدك ثانياً”.
والواقع أن هذا القول الوارد في الفتاوي الهندية يثير عادة أسئلة منها:
الراحج عندي أن المقصود أو المراد من نص الفتاوي الهندية هو حالة أو حالات معينة، وليس هو على العموم وبالنسبة لجميع القضاة الذين يعينهم الخليفة، ولو كان هذا هو المقصود لصار ذلك معروفاً وشائعاً. أما هذه الحالة أو الحالات التي يتعلق بها قول الفتاوي الهندية فهي حالة ما إذا عين الخليفة قاضياً، ثم بعد مضي سنة على تعيينه ظهر للخليفة أن في هذا القاضي ضعفاً في كفائته العلمية بنتيجة فحص قضاياه وأحكامه أو التحري عنه كما ذكرنا في كلامنا عن الرقابة على القاضي، فمن حق السلطان في هذه الحالة أن يسرحه من وظيفة القضاء ليتفرغ للدراسة وحتي لا تشغله أعمال وظيفته عن الدراسة الهادئة المستمرة المجدية. ولأنه إذا كان في حاجة إلى الاستزادة من العلم، وأبقي في وظيفته مع الطلب منه أن يدرس ويستزيد علماً، فإن هذا قد يؤدي إلى عدم وفائه بأعمال وظيفته وعدم وفائه بالدراسة، وفي ذلك ضرر على الناس إذ قد يصدر فيها أحكاماً دون دراية وتأمل لانشغاله بتعليم نفسه.
كما أني أري أن تسريحه من وظيفته يعتبر عزلاً وليس أجازة، بدليل أنه إذا عاد صدر أمر تعيينه مجدداً وهذا هو المفهوم من قول الفتاوي الهندية” …. ثم عد إلينا حتي نقلدك ثانياً” لأن التقليد ثانياً يعني التعيين مجدداً.
أما كيف يتأكد السلطان من إكمال القاضي دراسته وزيادة علمه وصيرورته أهلاً للقضاء، فهذا متروك للسلطان فله أن يتوسل بكل الوسائل الممكنة التي تدله على كفاءة الشخص العلمية عند إرادة تعيينه للقضاء ابتداء، وقد أشرنا إليها من قبل.
قلنا إن الخليفة يملك حق عزل القاضي لأنه هو الذي عينه، فكذلك يجوز للقاضي عزل نفسه بأن يستقيل من وظيفة القضاء، لأن قبوله لوظيفة القضاء لا يجعلها لازمة له على نحو لا يستطيع الفكاك والخلاص منها، لأنه بمنزلة الوكيل أو النائب عن الخليفة أو عن الأمة على اختلاف التكييف لمركزه عند الخلفاء، والوكيل له أن يستقيل من وكالته.
ومع قول الفقهاء إن من حق القاضي أن يستقيل، إلا أنهم قالوا: الأفضل أن لا يستقيل بدون عذر مشروع كالمرض أو تعذر قيامه بواجب القضاء لتدخل ولي الأمر بشئونه، ونحو ذلك من الأعذار والأسباب الداعية إلي الاستقالة، ويعللون ذلك بأن بقاءه في الوظيفة مع قدرته على القيام بواجباتها على الوجه المشروع مصلحة مؤكدة للناس يجب أن لا يفوتها عليهم باستقالته بدون عذر مشروع، ولكن مع هذا لو استقال فعلاً لا لعجز فيه ولا لعذر مقبول فإن استقالته صحيحة ونافذة لأنه يباشر حقاً له وهو حق الاستقالة باعتباره وكيلاً وللوكيل حق الاستقالة كما قلنا. اللهم إلا إذا تعين عليه البقاء في وظيفة القضاء لعدم وجود الصالح لهذه الوظيفة، فلا يجوز له أن يستقيل في هذه الحالة.
وإذا كان للقاضي أن يستقيل من وظيفته، واستقال فعلاً بأن رفع استقالته إلى الخليفة الذي ولاه القضاء فمتي يعتبر مستقيلاً؟ قالوا: يعتبر مستقيلاً إذا سمع الخليفة استقالته أو بلغه كتاب الاستقالة، فقد جاء في الفتاوي الهندية: “القاضي إذا قال عزلت نفسي أو أخرجت نفسي عن القضاء وسمع السلطان ينعزل.أما بدون سماع السلطان فلا وكذلك إذا كتب كتاباً إلى السلطان إني عزلت نفسي، وأتى كتاب السلطان صار القاضي معزولاً”.
والذي أراه أن القاضي لا ينعزل وتعتبر مستقيلاً بمجرد وصول كتاب استقالته إلى الخليفة أو الجهة التي تقدم إليها الاستقالة لأن طبيعة عمل القاضي وكونه يتعلق بمصالح الناس وقضاياهم، وأنه يعمل بولاية المسلمين ولمصلحتهم كما يقول فقهاء الحنفية، كل ذلك يجعل وكالته عنهم من نوع خاص لا تشبه وكالة الأفراد فيما بينهم، وبالتالي يكون من الإضرار بالمصلحة العامة اعتبار القاضي مستقيلاً واستقالته نافذة بمجرد رفع استقالته إلى الخليفة أو إسماعه إياها شفاهاً. وإنما يجب اعتباره مستقيلاً من تاريخ إخباره بقبول استقالته تحريرياً، على أن يتم هذا الإخبار خلال مدة مناسبة من تاريخ رفعه الاستقالة مثل مدة شهر، وإذا لم يخبر القاضي خلال هذه المدة بقبول استقالته اعتبرت استقالته مقبولة في نهاية هذه المدة، وعلى أن يكون للخليفة أو من يخوله حق رفض الاستقالة إذا وجد المبرر الشرعي مثل عدم وجود البديل للقاضي المستقيل. ولكن ينبغي أن لا يتعسف الخليفة في رفضه الاستقالة بحجة عدم تيسر منيعينه بدلاً عن القاضي المستقيل، ومن ضروب التعسف الإصرار على تعيين مثل القاضي المستقيل في جميع صفاته من العلم والدراية وحسن السمعة والورع ونحو ذلك، لأن المنظور إليه في تعيين القاضي توفر الشروط المطلوبة فيه بالحد الأدني المقبول من هذه الشروط وليس حدها الأعلي النادر الوجود.
Cookie | Duration | Description |
---|---|---|
cookielawinfo-checkbox-analytics | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Analytics". |
cookielawinfo-checkbox-functional | 11 months | The cookie is set by GDPR cookie consent to record the user consent for the cookies in the category "Functional". |
cookielawinfo-checkbox-necessary | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookies is used to store the user consent for the cookies in the category "Necessary". |
cookielawinfo-checkbox-others | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Other. |
cookielawinfo-checkbox-performance | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Performance". |
viewed_cookie_policy | 11 months | The cookie is set by the GDPR Cookie Consent plugin and is used to store whether or not user has consented to the use of cookies. It does not store any personal data. |