يراد بالقرائن: الأمارات والعلامات التي يستدل بها علي وجود شيء أو نفيه، كما لو شوهد شخص يخرج من دار مذعوراً وبيده سكين ملطخة بالدماء وعند دخول الناس الدار وجدوا شخصاً مذبوحاً فيستدلون بما رأوه من حال الشخص الخارج من الدار على أنه هو القاتل الذي باشر القتل بنفسه مع أنهم لم يشاهدوا ذلك بأنفسهم. أو يوجد المتاع المسروق في بيت شخص فيستدل بذلك علي أن هذا الشخص هو السارق أو أن السارق أودعه إياه أو أن صاحب البيت اشتراه من السارق.
فهل تعتبر القرائن طريقاً من طرق القضاء ووسيلة من وسائل النفي والإثبات عند صدور الأحكام بحيث يصح للقاضي أن يأخذ بها ويجعلها مستنداً لحكمه؟
الشارع اعتبر القرائن ولم يهدرها:
والواقع أن الشرع الإسلام اعتبر القرائن ولم يهدرها بدليل ترتيب الأحكام عليها لأن الشرع الإسلامي لا يهمل واقعاً ذا دلالة معينة، ولا يرفض نتيجة صحيحة دلت عليها قرينة صحيحة.
وقد دلَّ على اعتبار القرائن الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح من فقهاء وقضاة، ونذكر فيما يلي بعضاً من هذه الدلائل.
أولاً- أدلة القرآن الكريم علي اعتبار القرائن:
أ- قال تعالي في قصة يوسف:” وَ جَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ”.
قال الإمام القرطبي في تفسيره: استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات والأخذ بها في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها. وأجمعوا علي أن يعقوب عليه السلام استدل علي كذبهم بما رآه من سلامة القميص وعدم تمزقه حتي روي أنه قال لهم: متي كان هذا الذئب حكيماً يأكل يوسف ولا يخرق القميص؟.
ب- الشاهد الذي ذكر الله تعالي شهادته في قصة يوسف ولم ينكرها، بل حكاها مقرراً لها، يدل علي اعتبار القرائن وعدم إهدارها، قال تعالي: “ٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَ قَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَ أَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡعَذَابٌأَلِيمٞ. قَالَ هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفۡسِيۚ وَ شَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَ هُوَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ. وَ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَ هُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ. فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ قَالَ إِنَّهُۥمِن كَيۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٞ” فتوصل زوج المرأة بشق قميص يوسف إلي تمييز الصادق من الكاذب.
ثانياً – أدلة السنة النبوية:
ومن السنة النبوية أن رسول الله ﷺ حكم بقول القافة وجعل القيافة دليلاً على أدلة ثبوت النسب وليس هنا إلا مجرد الأمارات والعلامات، وقد أخذ الخلفاء الراشدون بهذا النهج، أي اعتبار القيافة، من أدلة ثبوت النسب، وأخذ بها مالك وأحمد والشافعي وغيرهم. والأخذ بالقيافة دليل على اعتبار القرائن.
وفي السنة النبوية أيضاً أن النبي ﷺ أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلي واصفها، وجعل وصفه لعفاصها ووكائها قائماً مقام البينة، وهذا ما ذهب إليه مالك.
ثالثاً – من أقضية الصحابة رضي الله عنهم:
حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون نكير من أحد بإقامة حد الزنا علي امرأة ظهر حملها ولا زوج لها اعتماداً علي القرينة الظاهرة، وهذا ما ذهب إليه مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه. كما حكم عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما بوجوب الحدٌ برائحة الخمر في فم الرجل أو قيئه خمراً اعتماداً علي القرينة الظاهرة، وهذا مذهب مالك وأصحابه.
مدي اعتبار القرائن عند الفقهاء:
أخذ الفقهاء بالقرائن واعتبروها وسيلة من وسائل الإثبات وطريقاً من طرق الحكم، فمنهم من صرح بالأخذ بها والتعويل عليها كما نجد ذلك في مذهب مالك، فمن ذلك قول الفقيه المالكي ابن فرحون في تبصرته: إن من طرق القضاء في المذهب المالكي الأخذ بالقرائن. ويقرب من مذهب المالكية في التصريح بالأخذ بالقرائن مذهب الحنابلة، كما نقل الفقيه ابن القيم الحنبلي وبيَّنه في كتابه الطرق الحكمية. إلا أن فريقاً من الفقهاء من المذاهب الأخرى لا يصرحون بالأخذ بالقرائن ولكن نجدهم في الواقع يرتبون أحكاماً علي أساس اعتبارهم للقرائن، من ذلك قولهم بانعقاد البيع بالمعاطاة من غير لفظ اكتفاءً بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا. ومنها قولهم في إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين عليه إنه لا يقبل هذا الإقرار للتهمة بقرينة مرضه وقرابته من المقر له. ومنها قولهم في الركاز: إذا كان عليه علامة المسلمين فهو لقطة، وإن كان عليه علامة الكفار فهو ركاز.
أعتراض ودفعه:
وقد يعترض علي اعتبار القرينة بالحديث الشريف “البينة علي المدعي واليمين علي من أنكر” فليس في الحديث غير البينة فهي التي يعول عليها ويؤخذ بها في القضاء. والجواب على ذلك أن القرينة الظاهرة تدخل في مفهوم البينة التي يبني عليها الحكم، لأن البينة اسم لكل ما يبيّن الحق ويظهره. “ولا تنحصر – كما يقول العسقلاني – في الشهادة، بل كل ما كشف الحق فهو بينة”.
وعلي هذا فالبينة قد تكون شهادة مقبولة أو نكولاً عن يمين وقد تكون قرينة أو شاهد الحال الذي هو من أنواع القرينة. فقول النبي ﷺ :” البينة علي المدعي واليمين علي من أنكر” معناه أن علي المدعي أن يقدم ما يبين ويكشف صحية دعواه ويظهرها، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حكم له. وعلي هذا فإن من قصر مفهوم البينة على الشهود لم يعرف ما ينطوي عليه اسم البينة من معني. ومما يؤيد ذلك أن البينة لم تأت قط في القرآن الكريم مراداً بها الشهود، وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان. وعلي هذا فإن الشهود من البينة والقرينة من البينة، وقد تكون القرينة في بعض المواضع أقوي دلالة علي صدق المدعي في دعواه من دلالة الشاهدين علي ذلك.
Cookie | Duration | Description |
---|---|---|
cookielawinfo-checkbox-analytics | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Analytics". |
cookielawinfo-checkbox-functional | 11 months | The cookie is set by GDPR cookie consent to record the user consent for the cookies in the category "Functional". |
cookielawinfo-checkbox-necessary | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookies is used to store the user consent for the cookies in the category "Necessary". |
cookielawinfo-checkbox-others | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Other. |
cookielawinfo-checkbox-performance | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Performance". |
viewed_cookie_policy | 11 months | The cookie is set by the GDPR Cookie Consent plugin and is used to store whether or not user has consented to the use of cookies. It does not store any personal data. |