ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة يقرر أن الدستور نص في المادة 19 منه على أن يكون التعليم حقا لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز، بما يوجب عدم التفرقة بين الطلاب الأثرياء والطلاب الفقراء في النهل من العلم الذي هو مناط تجريم الدروس الخصوصية , ذلك أن العملية التعليمية التى يتولاها أساتذة الجامعات يجب أن يقوم بنايتها على أساس صلب متماسك، نحو رحابة آفاق العلوم متوازية مع أصول مناهجها التربوية ، تعبيرا عن حقائق العصر ومعطياته، وبتكامل الشخصية الإنسانية التي يتشكل منها وجدان شباب الأمة ، وبإنماء التقاليد التربوية والخلقية والثقافية وتكريسها للطلاب ليرسموا في داخلهم ألوانا من فنون الإبداع , وهو ما لم يمكن تحقيقه إلا إذا التزم أساتذتهم بالمعايير المهنية التي ألتزمتها الأمم المتحضرة تأمينا لتعليم جيد للأجيال تنهض به الأمة لتحقق آمالا لا ينحصر لها محيط ، ولا تمتد لحيزها فراغ ، فإذا تنكب بعض أعضاء هيئة التدريس في الجامعات طريق الاستقامة ، وقد وسد القانون لهم أمانة تنشئة شباب الوطن ، وغرس قيم الحق والعدل في عميق وجدانه ، توطئة فى المستقبل القريب لحمل أمانة النهوض بالبلاد ، وإذا ما استباحوا هدم القيم الجامعية الأصيلة ، سعيه وهو ظالم إلي إعطاء الدروس الخصوصية ، مهدرا بذلك مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع الطلاب محدثا ميزة لطلابهم الأثرياء على حساب كفاءة نظرائهم الفقراء كان مسلكهم في هذا الطريق المعوج الموحل كالح السواد أثره الوبيل على مستقبل شباب الأمة ،وهم يرون بأعينهم أن معيار التعلم والنجاح لم يعد يعتمد على الكفاءة والجدارة والاستحقاق ولم يقم وزنا للموهبة والكد والمثابرة والجد وإنما اعتمد على مجرد المقدرة المالية ، فتتحول العملية التعليمية إلى صحراء جرداء وهجير لافح، ليس فيها ظل العلم ولا رواء التربية ولا مأوى الفضيلة , ويضحى علمُ أضاعَ جوهرَه الفقرُ وجهلٍ غَطىَّ عليه الثراءُ , و يكون لا ريب فعل أثيم جزاؤه العزل من الوظيفة الجامعية التى تسعى غاياتها لتحقيق المصلحة العامة وحماية أمن عقول الشباب والمجتمع .
ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة يقرر كذلك أن الدستور حرص فوق هذا وبنص المادة 21 منه , على أن تكفل الدولة استقلال الجامعات ،وتوفير التعليم الجامعي وفقاً لمعايير الجودة العالمية، وتعمل على تطوير التعليم الجامعي وتكفل مجانيته في جامعات الدولة ومعاهدها وفقا للقانون , وعلى القمة من مظاهر مجانية التعليم حظر إعطاء الدروس الخصوصية بالجامعات التى تحوط لها المشرع في المادة 103 من قانون تنظيم الجامعات المشار إليه , ورصد عقوبة العزل لها وفقا للمادة 110 لأعضاء هيئة التدريس الذين يرتكبون جُرم إعطاء الدروس الخصوصية لخطورتها على تخريب التعليم الجامعي من ناحية , وتمييزا لفئة الطلاب الأثرياء القادرين على تكاليف هذا الجُرم , عن الطلاب الفقراء ومحدودي الدخل من ناحية أخرى , مما يستنهض عدل هذه المحكمة من منصتها العالية متوخية بذلك أن تتكامل العملية التعليمية في وسائلها وغاياتها ، وأن تتعدد روافدها لتكون نهرا متصلا يتجدد ماؤه ولا يغير مساره ، ليكون رواء ماؤه تلك القيم والتقاليد الكامنة في أعماق بيئتها الجامعية ، وتعبيراً عن المصالح والأسس التي يقوم عليها تثبيتا لها، وتعميقا لمضمونها , وهو ما يفرض على أولى الأمر بالجامعات ألا يقفوا من ظاهرة الدروس الخصوصية موقفا سلبيا ، وإنما حملهم القانون مسئولية مجابهتها والإصرار عليها .
ومن حيث إن التعليم يعد حجر الزاوية في بناء المجتمعات المتحضرة لاتصالها بآمال النشء وطموحاتهم، وارتباطها بمصالح الدول ومقاييس تقدمها، وهو ما يوجب على الجامعات أن تهيمن على عناصره الرئيسية ، وأن توليه رعايتها، وأن توفر لدور التعليم – وبقدر طاقتها – شرايين الحياة الجوهرية التي لا تقوم إلا بها، وأن يكون جهد أساتذتها في البناء التعليمي للطلاب داخل قاعات الدرس لا خارجه ، تعبيرا عن اقتناعها بأن ثماره عائدة في منتهاها إلى الأمة , وأنها بيد أعضاء هيئة التدريس بها ليكون اضطلاعهم بالمسئولية مستقبلا منتجا وفعالا، وتعميقا لمشاعر الانتماء للوطن ، يتمخض إلهاما للضمائر الجامعية ، وشحذا للهمم نحو ما ينبغي أن يكون نهجا قويما للعمل الجامعي ، استعادة لتلك القيم التربوية التي تأبى أن يكون جهد أساتذتها انحرافا بالدروس الخصوصية عن غاياتها , بل تكون المثل العليا التي يكون غرسها وإيقاظها في نفوسهم عملا يؤول مصيره لصالح طلابهم ، مشكلا عقولهم ومحددا معالم الطريق تجاه وطنهم ، فلا يرون قدوتهم في الجامعة تنحدر إلى الاتجار بإعطاء دروس خصوصية فيتخاذلون ويمارون و يفرطون فى كل القيم والمثل التي كان يجب غرسها في نفوسهم .
ومن حيث إن التعليم الجامعي فوق هذا يعد هؤلاء الفتية للحياة ويدربهم على مواجهة صعابها ، وهم أسوياء بالتعليم داخل أسوار الجامعة لا خارجها ، يتوافقون به مع بيئتهم، ويندمجون في مجتمعاتهم، فلا يسعون لغير مظاهر التفوق إصرارا ، ليكون التعليم دوما حقا أصيلا لا تجد الأهواء فرص النفاذ إليه ، ولا تمليها نزوة عابرة بدرس خصوصي فيقيد من مدى حقهم اعتسافا ، بل يكون لجميع الطلاب داخل قاعات المحاضرات محددا وفق أسس موضوعية تستقيم بها متطلبات ممارسة هذا الحق، فلا يكون التعليم على ضوئها شكليا بلا مضمون ، ، بل يكون ملبيا للأغراض التي يتوخاها الدستور على ضوء نظرة كلية تكفل الارتقاء بالمجتمع حضاريا ، ولا ريب أن جُرم الدروس الخصوصية تنال من مبدأ تكافؤ الفرص بين الطلاب في الصميم , ويقضى على مواهبهم وقدراتهم ، فتنعدم قدرة الجامعات على الاتصال المنشود بطلابها والتأثير فيهم وجذبهم إليها ، وإشرابهم تلك القيم والمثل التي تمليها المصالح الحيوية في درجاتها العليا. ذلك أن العملية التعليمية يجب أن تتكامل عناصرها ، فلا يجوز المساس بها عن طريق فتح باب انحراف الدروس الخصوصية فتنفصل بعض أجزائها عن البعض ، وتنهار الحماية التي كفلها الدستور للحق في التعليم، ومن شأنها الإخلال بركائز التعليم وخلق تمييز غير مشروع بين الطلاب ، غير مستند إلى جدارتهم وهى المعيار القويم للأمم المتحضرة .
ومن حيث إن المواثيق الدولية حرصت على إرساء التكافؤ في الفرص والمعاملة المتساوية بين الطلاب في مجال التعليم , فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يؤكد في ديباجته، أن الحقوق المنصوص عليها فيه، مرجعها إيمان شعوب الأمم المتحدة بالحقوق الأساسية للإنسان، وبقيمة كل فرد وكرامته، وضرورة أن يعامل مع غيره وفقا لمقاييس تتكافأ مراكزهم القانونية بشأنها , وكان من بين هذه الحقوق، تلك المنصوص عليها في المادة 26 من هذا الإعلان في شأن التعليم، فقد جاء نصها صريحا في أن لكل إنسان حقا فيه، ولا يتاح التعليم العالي إلا على أساس من الجدارة والاستحقاق، وهو النهج الذى تناقضه أهداف الدروس الخصوصية وتؤكد المادة 13 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أن التعليم حق ينبغي أن يكون موجها نحو التطوير الكامل للشخصية الإنسانية، معززا الاحترام لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، مقترنا بضمان حق الناس جميعا في مجال الإسهام الفعال في بناء مجتمعاتهم الحرة، وهى حقوق وضمانات تنهار بإعطاء الدروس الخصوصية الذى يخرج بالتعليم خارج الحرم الجامعى وأروقته , فتتكون شخصية الطالب على غير ما تهدى إليه القيم الجامعية ويتنكب السبيل إلى تحقيق أهداف التعليم الجامعى .
كذلك يبين من الاتفاقية التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والشئون العلمية والثقافية في 14 ديسمبر 1960 في شأن مناهضة التمييز في مجال التعليم.Convention against discrimination in education adopted on 14th December, 1960, by the General Conference of The United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) إن هذا التمييز، يمثل انتهاكا للحقوق التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإن منظمة اليونسكو، تؤكد أن احترامها للتنوع في النظم التعليمية الوطنية، لا يجوز أن يخل بالتزامها – ليس بتحريم أشكال التمييز في نطاق التعليم على اختلافها فحسب – بل كذلك بالعمل على إرساء التكافؤ في الفرص والمعاملة المتساوية على صعيد التعليم، ذلك أن أشكال التمييز – على تباينها – تكتنفها مخاطر بعيدة آثارها. وكان لازما بالتالي أن يتناولها تنظيم دولي، يكون منهيا لصورها غير المبررة. وهو ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة الأولى من الاتفاقية الآنف بيانها، ذلك أن التمييز وفقا لحكمها يعني كل تفرقة أو تقييد أو استبعاد أو تفضيل يستند إلى لون الأشخاص أو جنسهم أو لغتهم أو عقائدهم أو آرائهم، أو أصلهم الوطني أو الاجتماعي أو “حالتهم الاقتصادية” وهو ما يظهر جليا في أساس الدروس الخصوصية ومبعثها خاصة أن هذا التمييز يتوخى إلغاء المعاملة المتكافئة بين الطلاب داخل قاعات الدرس .
وحيث إنه قد بات مستقرا أن الحقوق الأساسية للإنسان لا تستمد من صفته كمواطن في بلد ما فحسب ، بل مردها إلى الخصائص التي تميز الشخصية البشرية وتبرر بالتالي حمايتها وطنيا ودوليا، وكانت الدساتير المصرية جميعها بدءا بدستور سنة 1923 وانتهاء بالدستور القائم، ترد المواطنين جميعا إلى قاعدتين متلازمتين ، حاصلهما مساواتهم أمام القانون وتكافؤ الفرص فيما بينهم خاصة في مجال التعليم ، باعتبارهما قواما للعدل وجوهرا للحرية والسلام الاجتماعي، لذا فإن جُرم إعطاء الدروس الخصوصية في الجامعة تمثل إخلالا بالحق في التعليم وبالتضامن الاجتماعي، فليس لفريق من الطلاب لثرائهم أن يتقدموا على غيرهم من الزملاء انتهازا، ولا أن ينالوا قدرا من المزايا غير المشروعة يكونوا بها – عدوانا – أكثر علوا من فقرائهم ، فيتميزن عن بعضهم بهتانا، لذا كان جُرم الأستاذ الجامعي الذي يخون الأمانة والثقة ويعطى دروسا خصوصية جرما جائرا في حق الوطن وطلابه , ولا يعدو أن يكون تمييزا على أساس من ” الحالة الاقتصادية ” في مجال مباشرة حق التعليم الذي كفله الدستور للمواطنين جميعا على السواء ، لينحل تمييزا منهيا عنه دستوريا، ذلك أن تكافؤهم في الشروط الموضوعية التي يتم على ضوئها اجتياز الامتحانات يقتضى بالضرورة تعادلهم في مجال الانتفاع بعلم أساتذتهم داخل قاعات الدرس المتصل بالعملية التعليمية لا بدروس خصوصية خارج قاعات الدرس والتحصيل فيختل الميزان ويضطرب مؤشره .
…………………………………………………………………………………………
ومن حيث إن المحكمة تسجل في حكمها أن ظاهرة انتشار الدروس الخصوصية في الجامعات المصرية مرض عضال ينهش في جسد التعليم الجامعي , وكارثة تعليمية وتربوية تهدد بنسف منظومة التعليم الجامعي لتعارضها مع تقاليد وأصول المنهج الجامعي الذي يرتكز في الأساس على تنمية قدرة الطالب على البحث عن المعلومة , فضلاً عما فيه من النأي بالطالب خارج الحرم الجامعي لتلقى علومه وهو أمر جد خطير لما فيه من غرس قيم سلبية في مرحلة التكوين العلمي والفكري ويفت في عضد انتمائه لمجتمعه ووطنه وجامعته بما يجعله عرضة لأنواء الأمراض الاجتماعية التي يمكن أن تترك ندوباً على وجه الوطن يحتاج إلى البرء منها سنين عددا ، وسوف تؤدى هذه الظاهرة إذا لم تلق العناية الكافية من المجلس الأعلى للجامعات إلى انهيار التعليم الجامعي وضعف خريجيه مما يلزم معه على رؤساء الجامعات العمل على إيجاد نظام حقيقي للرقابة الفعلية على أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم والمتابعة الواقعية التي تؤدى إلى القضاء على تلك الظاهرة , وكذلك العناية بأهمية توظيف التكنولوجيا الحديثة في العملية التعليمة، وابتكار ما يتوافق منها مع ما يُمكن الطالب من تفاعله مع المحاضر , خاصة وأن المادة 19 من قانون تنظيم الجامعات رقم 49 لسنة 1972 أناط بالمجلس الأعلى للجامعات من بين اختصاصاته كل ما يتعلق بمسائل التعليم في مستوياته ونوعياته المختلفة ووضع النظم الخاصة بتقويم وتطوير الأداء الجامعي , ولا ريب أن الدروس الخصوصية على القمة من مهام المجلس الأعلى للجامعات للوصول بالتعليم الجامعي إلى مرتبة الجودة , ذلك أن النصوص القانونية لا تكفى وحدها ما لم تحظ بتطبيق فعال ممن ناط بهم القانون لتنفيذ قواعده للقضاء على تلك الظاهرة التي أساءت للتعليم الجامعي المصري صاحب الصدارة والريادة في المنطقة العربية والإفريقية.
( حكم المحكمة الإدارية العليا ، الطعنين رقمي 20806 ، 23187 لسنة 60 قضائية.عليا، بجلسة 13/6/2020 )
Cookie | Duration | Description |
---|---|---|
cookielawinfo-checkbox-analytics | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Analytics". |
cookielawinfo-checkbox-functional | 11 months | The cookie is set by GDPR cookie consent to record the user consent for the cookies in the category "Functional". |
cookielawinfo-checkbox-necessary | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookies is used to store the user consent for the cookies in the category "Necessary". |
cookielawinfo-checkbox-others | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Other. |
cookielawinfo-checkbox-performance | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Performance". |
viewed_cookie_policy | 11 months | The cookie is set by the GDPR Cookie Consent plugin and is used to store whether or not user has consented to the use of cookies. It does not store any personal data. |