لا شك أنه لا مجال للاجتهاد إذا نص المشرع علي اعتبار أحد العقود عقداً إدارياً، أو نص صراحة علي اختصاص القضاء الإداري بنظر بعض أنواع العقود مما يعني أنها عقود إدارية تخضع لأحكام القانون الذي يطبقه هذا القضاء. ومن أمثلة هذه العقود في فرنسا عقد الأشغال العامة وعقد بيع عقارات الدولة وعقد شغل المال العام. أما في مصر فإن العقود الإدارية تعتبر عقوداً إدارية بطبيعتها، ووفقاً لخصائصها الذاتية، لا بتحديد القانون، ولا وفقاً لإرادة المشرع. وذلك لأن المشرع قد نص في المادة العاشرة من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972 على أن تختص محاكم مجلس الدولة دون غيرها بالفصل في …. المنازعات الخاصة بعقود الالتزام أو الأشغال العامة أو التوريد أو بأي عقد إداري أخر “والمشرع بذلك لم يحدد العقود الإدارية على سبيل الحصر. كما أنه لم يقصد تحديد العقود الإدارية بحكم القانون، وإنما هو يتحدث عن العقود الإدارية التي تعتبر كذلك وفقاً للمعيار الذي استقر عليه القضاء الإداري.
وليس أدل على ذلك من أن عقد التوريد قد يكون إدارياً وقد لا يكون كذلك، إذا لم تتوافر فيه شروط العقد الإداري كما في حالة توريد بعض السلع لأحد المرافق الصناعية أو التجارية دون النص في العقد على أي شرط غير مألوف في عقود القانون الخاص أما عقد الالتزام وكذلك عقد الأشغال العامة الواردان في النص فيعتبران دائماً من العقود الإدارية نظراً لتعلق الأول بإدارة مرفق عام ولصلة الثاني الوثيقة بالمنفعة العامة. ولما كان المشرع في مصر وفرنسا ولبنان لم يحدد العقود الإدارية على سبيل الحصر، لذلك وجب البحث عن معيار لتمييز هذه العقود عن غيرها تمهيداً لإخضاعها لأحكام القانون الإداري. وغالباً ما تشترط أحكام القضاء الإداري في هذه البلاد توافر ثلاثة شروط في العقد الإداري، وهي أن تكون الإدارة طرفاً فيه وأن يتصل بمرفق عام وأن يتضمن شروطاً استثنائية. وقد عرفت المحكمة الإدارية العليا المصرية العقد الإداري بأنه ” العقد الذي يبرمه شخص معنوي عام بقصد إدارة مرفق عام أو بمناسبة تسييره، وأن تظهر نيته في الأخذ بأسلوب القانون العام. وذلك بتضمين العقد شرطاً أو شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص”.
غير أنه بتدقيق النظر وإمعان الفكر نجد أن هذه الشروط تتركز في الحقيقة في شرطين اثنين فقط، وهما:
أولاً: وجود الإدارة كطرف في العقد:
لكي يكون العقد إدارياً يجب أن يكون أحد طرفيه من أشخاص القانون العام، سواء تعلق الأمر بالدولة أم بأحد الأشخاص المعنوية الإقليمية أو المرفقية. فالأصل أن العقد الذي يبرم بين شخصين من أشخاص القانون الخاص – أفراداً كانوا أم شركات – لا يمكن أن يعتبر عقداً إدارياً يخضع لأحكام القانون العام. إلا أنه استثناء من ذلك قضت محكمة التنازع الفرنسية في حكم شهير لها بتاريخ 8 يوليه عام 1964 بأنه يعتبر عقداً إدارياً العقد الذي أبرم بين شركة اقتصاد مختلط صاحبة امتياز وبين أحد المقاولين متعلقاً بمسائل تعد من الأشغال العامة. وذلك رغم أن العقد تم بين شخصين من أشخاص القانون الخاص، إذ أن شركة الاقتصاد المختلط هي شخص معنوي خاص. وذلك على اعتبار أن هذه الشركة تعمل لحساب الإدارة.
وقد اعترف القضاء الفرنسي بالصفة الإدارية لبعض العقود الإدارية التي ليس من أطرافها شخص من أشخاص القانون العام. وذلك في الحالات التالية:
1- التعلق بأشغال بطبيعتها تخص الدولة:
وفي هذه الحالة يبرم العقد بين شخصين من أشخاص القانون الخاص، ومع ذلك يعتبر عقداً إدراياً بالنظر إلي موضوعه لأنه يتعلق بأشغال هي بطبيعتها تخص الدولة. فرغم أن مثل هذا العقد المبرم بين شخصين من أشخاص القانون الخاص كان يجب منطقياً أن يعتبر من عقود القانون الخاص، فقد اعتبرته محكمة تنازع الاختصاص الفرنسية عقداً إدارياً على اعتبار أنه يتضمن ممارسة مهمة بطبيعتها تخص الدولة. وذلك بمناسبة إقامة الانفاق التي تعتبر من الأشغل العامة الكبيرة المتعلقة بشق الطرق.
2- عقود شغل المال العام:
يعتبر العقد إدارياً إذا تضمن احتلال مال عام وأبرم بين صاحب امتياز وأحد أشخاص القانون الخاص. وذلك وفقاً لمرسوم بقانون 17 يونيه عام 1938 الذي تم تقنينه بالنسبة للدولة في المادة 48 ل من تقنين المال. وقد فسر القضاء ذلك على أنه يتعلق بصاحب امتياز مرافق عامة بصفة عامة، وليس مجرد صاحب امتياز طرق.
وهذا الاستثناء لا يمتد إلي كل نوع من أنواع الأشغال العامة يتصل من قريب أو بعيد بأشغال هي بطبيعتها تخص الدولة. فقد رفضت محكمة تنازع الاختصاص الاعتراف بالصفة الإدارية لبعض العقود المتصلة بمثل هذه الأشغال.
3- التفويض الصريح أو الضمني:
أما الاستثناء الثالث فيقوم علي أساس التفويض أو التمثيل القانوني. فالمفوض أو الموكل وهو صاحب سلطة اتخاذ القرار يعهد إلي المفوض إليه أو الوكيل – بأداة قانونية – بمهمة التصرف باسمه في إبرام بعض العقود. والاستثناء لا يكون حقيقياً إذا وجد تفويض أو توكيل صريح من جانب الإدارة لأحد طرفي العقد، لأن العقد وإن كان مبرماً بين شخصين من أشخاص القانون الخاص من حيث الظاهر، فإن أحد هذين الشخصين يمثل الإدارة قانوناً ويتصرف باسمها ولحسابها، وبذلك تعتبر الإدارة أحد طرفي العقد بحسبانها الموكل الذي تعود إليه آثار العقد. لذلك فقد اعترف مجلس الدولة الفرنسي منذ فترة طويلة بالصفة الإدارية لمثل هذه العقود.
ولكن المشكلة تبدو كما لو كانت استثناء حقيقياً من شرط وجود الإدارة كطرف من طرفي العقد عندما لا يوجد تفويض أو توكيل صريح منها لأحد المتعاقدين. لذلك فقد ثارت المشكلة من جديد بالنسبة للحالات التي لا يوجد فيها تفويض أو توكيل صريح من جانب الإدارة، ولكنها كلفت أحد الأشخاص القانون الخاص بتحقيق مهمة معينة، وقصدت بذلك أن تحط عن كاهلها عبء هذه المهمة لصالح شخص خاص، عادة ما يكون شركة الاقتصاد مختلط. ورغم أن منطق القانون كان يقتضي اعتبار العقد المبرم بين شركة الاقتصاد المختلط – وهي شخص معنوي خاص – وبين شخص خاص آخر – ولم تظهر فيه الإدارة لا بالإصالة ولا بالوكالة الصريحة – من عقود القانون الخاص، فإن مجلس الدولة الفرنسي قد اعترف بإمكانية وجود توكيل أو تفويض ضمني من الإدارة لأحد الطرفين يسمح باعتبار العقد إدارياً رغم عدم ظهور الإدارة فيه.
وقد أيدت محكمة تنازع الاختصاص الفرنسية نفس الاتجاه في قضايا مماثلة. كما عاود مجلس الدولة تأكيد موقفه في قضايا مشابهة.
والاستناد إلى وجود تفويض صريح أو ضمني من جانب الدولة لأحد المتعاقدين لا يعني وجود استثناء حقيقي على اشتراط أن يكون أحد طرفي العقد شخصاً من أشخاص القانون العام. وذلك لأن الشخص العام إما أن يتعاقد بالأصالة أو بالوكالة، وفي الحالتين يكون طرفاً في العقد، ولا يوجد استثناء من هذا الشرط.
وقد ساير القضاء الإداري المصري اتجاه مجلس الدولة الفرنسي في اعتبار العقد المبرم بين شخصين من أشخاص القانون الخاص إدارياً إذا اتضح أن أحد أطرافه كان يتعاقد لحساب الإدارة. فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأنه ” لئن كان من البديهي أن العقد الذي لا تكون الإدارة أحد أطرافه لا يجوز بحال أن يعتبر من العقود الإدارية، ذلك أن قواعد القانون العام إنما وضعت لتحكم نشاط الإدارة لا نشاط الأفراد والهيئات الخاصة، إلا أنه من المقرر أنه متي استبان أن تعاقد الفرد أو الهيئة الخاصة إنما كان في الحقيقة لحساب الإدارة ومصلحتها، فإن هذا التعاقد يكتسب صفة العقد الإداري إذا ما توافرت فيه العناصر الأخري التي يقوم عليها معيار تمييز العقد الإداري، ومن ثم فإنه متي كان الثابت أن شركة شل في العقدين موضوع النزاع إنما تعاقدت لحساب ولمصلحة الحكومة، فلا نزاع في أن العقدين المذكورين قد أبرما بقصد تسيير مرفق عام وفي أنهما اتبعت فيهما وسائل القانون العام. متي كان الأمر كذلك، فإن العقدين المشار إليهما على ما تقدم يكتسبان صفة العقود الإدارية. وبهذه المثابة فإن مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري يختص دون غيره بنظر المنازعات الخاصة بهما”.
ولا تعتبر العقود التي تبرمها الهيئات الخاصة ذات النفع العام من العقود الإدارية. فالعقد الذي يبرمه أحد النوادي الاجتماعية – المنشأة طبقا لأحكام قانون الهيئات الأهلية لرعاية الشباب والرياضة رقم 57 لسنة 1987- لا يعتبر عقداً إدارياً، حيث أن الإدارة ليست طرفاً فيه، وبالتالي تخرج مراجعته عن إطار الاختصاص الوجوبي لمجلس الدولة في مراجعة العقود.
نيابة الإدارات عن بعضها:
يجوز للجهات الإدارية أن تنوب عن بعضها في مباشرة إجراءات التعاقد لإبرام عقد معين، ولو لم تعلن المتعاقد معها أنها تتعاقد بصفتها نائبة عن إدارة أخري. وذلك طبقاً للمبدأ العام الذي نصت عليه المادة 106 من القانون المدني بقولها ” إذا لم يعلن المتعاقد وقت إبرام العقد أنه يتعاقد بصفته نائباً، فإن العقد لا يضاف إلى الأصيل دائناً أو مديناً إلا إذا كان من المفروض حتما أن من تعاقد معه النائب يعلم بوجود النيابة أو كان يستوي عنده أن يتعامل مع الأصيل أو النائب”.
وقد جاء بفتوي مجلس الدولة المصري أنه “ولئن كان البادى من الأوراق أن مجلس المدينة لم يعلن المقاول وقت إبرام العقد أنه تعاقد بصفته نائباً عن مديرية الأوقاف، كما أنه ليس مفروضاً حتماً علم المقاول بوجود هذه النيابة، إلا أنه يخلص من ظروف الحال أن المقاول المذكور تاجر يحترف تنفيذ عمليات توصيل المياه وغيرها من مقاولات الأعمال الصحية لحساب من يتعاقد معه من الجهات العامة أو الخاصة مستهدفاً في المقام الأول تحقيق الربح دون أن يعتد بشخص المتعاقد معه قدر اعتداده بملاءمة شروط العقد لمصلحته …..
وعلى ذلك فإن آثار العقد الذي أبرمه مجلس المدينة مع المقاول – حقوقاً والتزامات – تتصرف إلى مديرية الأوقاف مباشرة”.
التعاقد مع النفس:
الأصل أن يتم التعاقد بين شخصين متميزين، سواء من أشخاص القانون العام أم أشخاص القانون الخاص. لكن يحدث أحياناً أن يتعاقد الشخص مع نفسه، كما هو الشأن في تعاقد مرفق مع آخر أو إدارة مع أخري ليس لها الشخصية المعنوية، وإنما تعتبر فروعاً للشخصية المعنوية للدولة. وهو أمر جائز ووارد ومتكرر. وفي هذه الحالة لا يترتب علي تنفيذ العقد انتقال أموال من ذمة مالية إلي أخري، وإنما مجرد تغيير في تخصيص الأموال محل العقد.
وتعاقد الدولة مع نفسها لا يستبعد الخلافات ولا يمنع من الترافع إلى القضاء – لحسمها – من أحد المرافق ضد مرفق آخر كقاعدة عامة. وذلك إلا إذا نظم المشرع وسيلة أخري لحل المنازعات بين طرفي العقد كما حدث في مصر حيث نص القانون على اختصاص الجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع بذلك بفتوي ملزمة.
التعاقد كأشخاص القانون الخاص:
يجب أن تتعاقد الإدارة بوصفها سلطة عامة. فإذا أبرمت العقد بأي صفة أخري غير هذه قضت الصفة، انتفت الصفة الإدارية عن العقد وكان من عقود القانون الخاص. وقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأنه “ومن حيث أن قضاء هذه المحكمة قد استقر علي أن العقد يعتبر إدارياً إذا كان أحد طرفيه شخصاً معنوياً عاماً، ومتصلا بمرفق عام، ومتضمناً شروطاً غير مألوفة في نطاق القانون الخاص، فإذا تضمن عقد هذه الشروط الثلاثة مجتمعة كان عقداً إدارياً يختص به القضاء الإداري. وإذ يبين من أصل كل من عقد إنشاء ثلاث عمارات سكنية لمحدودي الدخل على أرض وقف الدمرداش ، وعقد إنشاء العمارتين أ ، ب بالقبة، أن كلا العقدين بين وزارة الأوقاف والطاعن قد تضمنا مادة برقم 56 عنوانها صفة الوزارة يعترف فيها المقاول بأن وزارة الأوقاف إنما تتعاقد معه بصفتها ناظرة على الوقف التابع له العملية موضوع التعاقد…. وذلك ينبئ بوضوح بأن وزارة الأوقاف لم تتعاقد مع الطاعن بصفتها سلطة عامة، وإنما باعتبارها ناظرة على وقف، وعلى ذلك فإن حقيقة التعاقد قد تم بين الوقف كشخص من أشخاص القانون الخاص، وبين الطاعن، وبالتالي يتخلف في شأنه حتي يعتبر عقداً إدارياً – شرط أن يكون أحد طرفي التعاقد من أشخاص القانون العام….”.
وقضت المحكمة الإدارية العليا بأن ” عقد الإيجار المبرم بين هيئة الأوقاف المصرية باعتبارها هيئة عامة، وبين أحد الأفراد، وإن كان ينطوي على بعض الشروط الاستثنائية غير المألوفة في عقد الايجار إلا أنه لا يعتبر عقداً إدارياً، لأنه لا يتصل بنشاط مرفق عام بقصد تسييره وتنظيمه”.
ونري أن عقود الايجار التي تبرمها وزارة الأوقاف لا تعتبر عقوداً إدارية بصرف النظر عن تعلقها أو عدم تعلقها بتشغيل أو تنظيم المرافق العامة، على أساس أنها لا تتصرف في مثل هذه العقود بوصفها سلطة عامة، وإنما تتصرف كأي مالك يعمل علي استغلال أملاكه، أو تحاول المساهمة في حل أزمة الإسكان كما لو كانت مرفقاً اقتصادياً. وفي الحالتين تعتبر عقود الايجار التي تبرمها من عقود القانون الخاص.
وتعتبر عقود مستعملي المرافق العامة الصناعية والتجارية كقاعدة عامة من عقود القانون الخاص. من ذلك عقد اشتراك المياه والكهرباء والغاز واستعمال المواصلات العامة. وتعتبر هذه العقود استثناء وفي حالات نادرة عقوداً إدارية – من ذلك عقد استعمال التليفون في فرنسا قبل عام 1990، وفي مصر قبل تحويل الهيئة العامة للاتصالات إلى شركة عامة.
عقود شركات القطاع العام:
لما كانت شركات القطاع العام أو قطاع الأعمال في مصر تعتبر من أشخاص القانون الخاص، فإن العقود التي تبرمها مع غير أشخاص القانون العام لا تعد من العقود الإدارية. وحيث أن الترخيص بشغل عقار لا يرد إلا على الأموال العامة المملوكة للدولة أو لأحد أشخاص القانون العام، وأن أموال شركات القطاع العام ليست من الأموال العامة، فقد خلص القضاء في تكييف العلاقة بين طرفي الدعوي علي أنها علاقة إيجارية من علاقات القانون الخاص.
الطرف الآخر في العقد الإداري:
أما الطرف الآخر في العقد الإداري فيمكن أن يكون هو الآخر شخصاً من أشخاص القانون العام، كما قد يكون شخصاً من أشخاص القانون الخاص وهذا هو الغالب في العقود الإدارية.
وقد تؤثر نوعية الشخص الخاص المتعاقد مع الإدارة في طبيعة العقد أو ترجح صفته الإدارية. فقد أكدت محكمة تنازع الاختصاص الفرنسية أنه عندما تبرم جهة الإدارة عقداً مع أحد البنوك فإنه يكون عادة من عقود القانون الخاص.
وإذا أبرم العقد بين شخصين من أشخاص القانون العام فإن تماثل المراكز القانونية بين طرفي العقد قد يؤدي إلي خلق نوع من المساواة بينهما تشبه ما يحدث في مجال القانون الخاص. ومع ذلك يعتبر العقد إدارياً كقاعدة عامة, إلا إذا كان – بالنظر إلى موضوعه – لا ينشئ بين طرفيه إلا علاقة من علاقات القانون الخاص، كالعقود المتصلة بإدارة الأموال الخاصة والعقود ذات الصبغة التجارية.
وقد ثار التساؤل حول جدوي نظرية العقد الإداري عندما يبرم العقد بين إدارتين أو بين الإدارة وإحدي شركات القطاع العام. فرأي بعض الفقهاء في مصر – في أعقاب حركة التأميم في الستينات – ” أنه لم تعد هناك حاجة لتطبيق نظرية العقد الإداري، بعد أن اتسع لدينا مجال القطاع العام وأصبحت معظم العقود التي تبرمها الإدارة تتم بين وحدات منها أي بين أجهزة إدارية. ذلك أن أحكام العقد الإداري إنما تقررت لرعاية وتغليب المصلحة العامة التي تمثلها الإدارة في تعاقدها مع أحد أشخاص القانون الخاص الذين يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة. فلم يعد ثم داع لإجراء طريقة المناقصات والمزايدات لاختيار المتعاقد مع الإدارة مثلاً، كما لم يعد بعد مبرر لتطبيق نظرية فعل الأمير أو نظرية الظروف الطارئة، ولا حتي لتوقيع الجزاءات المعروفة في نظرية العقد الإداري، إذ أن ما يترتب عليها من أضرار أو خسائر سيعود في نهاية الأمر علي الدولة وخزانة الدولة”.
ونري – رداً على ذلك – أن العقد الإداري كما قد يعقد بين سلطة إدارية و أحد أشخاص القانون الخاص، فإنه يبرم أيضاً بين سلطة إدارية وأخري أو بين سلطة إدارية ومشروع عام. وليست نظرية العقد الإداري حكراً على الحالة الأولي دون الثانية. وإذا كانت المشروعات العامة أو المرافق الصناعية والتجارية تقوم مقام الملتزم أو المقاول أو المورد في التعاقد مع الإدارات الأخري وتخضع في نشاطها أو في جانب كبير منه لقواعد القانون الخاص الذي يحكم هؤلاء ويتفق مع طبيعة نشاطها، فإنها يجب كذلك أن تخضع لما يخضع له المتعاقد مع الإدارة من التزامات أساسها الرغبة في الحفاظ على الصالح العام. وذلك حتي تثبت أنها ليست أقل كفاءة أو جدارة من المتعاقد الخاص. فإن لم تكن كذلك فلا خير فيها ولا جدوي من وجودها.
لذلك فإن نظرية العقد الإداري يمكن بلا حرج أن تبقي ويستمر تطبيقها مع كون طرفي العقد إدارتين أو شخص عام ومشروع عام، وذلك سواء من حيث انعقاد العقد أم من حيث آثاره.
وحسناً فعلت الدولة أخيراً حين اتجهت إلى تحويل المشروعات العامة إلى مشروعات خاصة بعد أن ثبت فشلها الذريع وكبدت البلاد خسائر فادحة كادت أن تستغرق رؤوس أموالها. وذلك بعد أن متعتها بمزيد من المزايا والحقوق الزائفة فركنت إليها وتركت العمل الجاد فتدهور إنتاجها كما وكيفاً.
وقد حاول المشرع المصري أخيراً التيسير علي إدارات الدولة المختلفة عندما تتعاقد فيما بينها فنصت المادة 38 من قانون المناقصات والمزايدات رقم 89 لسنة 1998 علي أنه “يجوز للجهات التي تسري عليها أحكام هذا القانون التعاقد فيما بينها بطريق الاتفاق المباشر، كما يجوز أن تنوب عن بعضها في مباشرة إجراءات التعاقد في مهمة معينة وفقاً للقواعد المعمول بها في الجهة طالبة التعاقد. ويحظر التنازل لغير هذه الجهات عن العقود التي تتم فيما بينها”.
والجهات التي تسري عليها أحكام قانون المناقضات والمزايدات هي وحدات الجهاز الإداري للدولة – من وزارات ومصالح، وأجهزة لها موازنات خاصة – ووحدات الإدارة المحلية، والهيئات العامة، خدمية كانت أو اقتصادية.
وقد أراد القانون بهذا النص أن يقلل من القيود التي يفرضها علي اختيار المتعاقد مع الإدارة إذا كان هذا المتعاقد هو الآخر جهة إدارية، أي إذا أبرم العقد بين إدارتين من إدارات الدولة. وذلك لأن أموال الإدارتين هي من أموال الدولة ولا خشية من حدوث تجاوزات من أحد الطرفين علي أموال الطرف الآخر، أو من حدوث تلاعب أو انحراف من جانب موظفي إحدي الإدارتين في مواجهة الإدارة الأخري. لذلك حظر القانون التنازل عن مثل هذه العقود لغير هذه الجهات من أشخاص القانون الخاص.
كما أجاز النص أن تنوب بعض إدارات الدولة عن بعض في مباشرة إجراءات التعاقد لإبرام أي عقد وفقاً لإجراءات التعاقد المعمول بها في الجهة طالبة التعاقد.
وقد أكدت المحكمة الإدارية العليا في مصر التزام كل من طرفي العقد الإداري بتنفيذ ما اتفق عليه في العقد بصرف النظر صفته العامة أو الخاصة، فإن حاد عن ذلك كان مسئولاً عن إخلاله بالتزامه. فإذا وافقت مديرية التربية والتعليم على عرض البيع المقدم إليها من الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية في شأن مطبوعات محددة، وبادرت الهيئة إلي إنتاج هذه المطبوعات، فلا يحق للمديرية بعد ذلك أن تمتنع عن أداء ثمن الجزء الأكبر منها بحجة عدم كفاية الاعتمادات المالية ” وإلا كان ذلك إخلالاً من جانبها بما التزمت به رضاء، وحق عليها أن تقوم بتنفيذه طبقاً لشروط العقد، ومن ثم يتعين إلزامها بأداء هذا المبلغ إلى الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية”.
وكون أحد طرفي العقد من أشخاص القانون العام لا يكفي ولا يستتبع بالضرورة اعتبار العقد إدراياً. إذ قد تتعامل الإدارة مع الأفراد بل وبخصوص مرافق عامة بمقتضي عقود مدنية، لاتفاقها في بعض الأحوال مع مصلحة الإدارة ونوعية النشاط الذي تمارسه. وذلك كما هو الحال فيما يتعلق ببيع منتجات المرافق العامة الصناعية والتجارية أو شراء مستلزماتها.
ثانياً: تصرف الإدارة بوصفها سلطة عامة:
لكي يكون العقد إدارياً لا يكفي أن يكون أحد طرفيه من أشخاص القانون العام، وإنما يجب كذلك أن تتصرف الإدارة عند تعاقدها بوصفها سلطة عامة. وذلك بأن يتصف العقد ببعض الصفات في شروطه أو في موضوعه ويتصل بفكرتي السلطة العامة والمرافق العامة وهما المحوران الرئيسيان للقانون الإداري. فإما أن تتضمن شروط العقد استخدام اميتازات السلطة العامة المتمثلة في وجود شروط فادحة أو غير مألوفة في القانون الخاص، وإما أن يكون موضوعه هو تنفيذ مهمة مرفق عام.
وعندما يبحث القاضي في تكييف العقد للوقوف على صفته الإدارية أو المدنية، فإنه يبدأ عادة بالبحث عما إذا كان العقد يتعلق بتنفيذ مهمة مرفق عام، لأن الأمر في هذه الحالة أسهل وأوضح. فإذا لم يجد العقد كذلك أخذ في البحث عن وجود الشروط الاستثنائية أو الفادحة التي لا تصادف في عقود القانون الخاص عادة. وهذا لا يعني أن معيار الشروط الاستثنائية يعتبر معياراً احتياطيا كما قد يري البعض، وإنما أي المعيارين يكفي لتوافر الصفة الإدارية لعقود الإدارة، فإما أن يكون العقد يتعلق بتنفيذ مهمة مرفق عام، وإما أن يتضمن شروطاً استثنائية غير موجودة في عقود القانون الخاص عادة. ولما كان المعيار الأول أوضح وأسهل اكتشافاً، كان من الطبيعي أن يبدأ القاضي بالبحث عنه.
ولما كان معيار الشروط الاستثنائية هو المعيار الأكثر تواجداً في العقود الإدارية من الناحية العملية فسوف نبدأ به ليكون العرض على النحو التالي:
1- وجود شرط استثنائي:
إذا لم يتعلق العقد بمهمة تنفيذ مرفق عام، فإنه يمكن مع ذلك أن يكون عقداً إدارياً إذا تضمن شرطاً استثنائياً أو فادحاً لا يصادف عادة في عقود القانون الخاص، وإن لم يتصل العقد بمرفق عام، وذلك كأن تشترط الإدارة لنفسها التمتع ببعض الامتيازات التي تمس مبدأ المساواة بين المتعاقدين وتعلي من شأن الإدارة، مما ينبئ عن رغبتها في استخدام أساليب السلطة العامة ووسائل القانون العام، ووضع المتعاقد معها تحت رقابتها.
ويعتبر تضمين العقد بعض الشروط الاستثنائية غير المألوفة في عقود القانون الخاص أمراً اختيارياً بالنسبة للإدارة. فإن شاءت أدخلت في عقودها بعض هذه الشروط لتضفي عليها الصفة الإدارية وإن أرادت امتنعت عن ذلك وتركت عقودها تخضع لأحكام القانون الخاص.
وقد وجد هذا الشرط في أحكام مجلس الدولة الفرنسي منذ سنوات طويلة. ففي حكم جرانيت دي فوسج عام 1912 قضي المجلس بأن الأمر يتعلق بعقد من عقود القانون الخاص لأنه لا يتضمن شروطاً لا تقبل في عقود هذا القانون. ويستفاد من هذا الحكم أن وجود شروط استثنائية لا تصادف عادة في عقود القانون الخاص تجعل العقد الذي تبرمه الإدارة يتصف بالصفة الإدارية.
ومن أمثلة الشروط الاستثنائية حق إعطاء الأوامر والتعليمات أثناء تنفيذ العقد، وحق توقيع الجزاءات علي المتعاقد معها، وحق الفسخ دون التجاء إلى القضاء أو خطأ من جانب الطرف الآخر. وحق الإدارة في تحصيل حقوق الدائنية عن طريق التنفيذ المباشر أو الجبري.
وقد تتمثل الشروط غير المألوفة أيضاً في أن تجيز الإدارة للمتعاقد معها التمتع ببعض امتيازات السلطة العامة كحق نزع الملكية للمنفعة العامة أو استخدام وسائل الإكراه ضد الأفراد. وذلك بسبب قيامه بمعاونة السلطة الإدارية في إدارة المرافق العامة تحقيقاً للنفع العام. وتشمل الشروط الاستثنائية أيضاً تلك التي تفرض على المتعاقد مع الإدارة التزامات لا يستطيع أحد غير أشخاص القانون العام فرضها، وتشمل أيضا الشرط الذي يمنح الإدارة سلطات الرقابة والتوجيه لنشاط المتعاقد معها، أو الذي يفرض علي الأخير التزامات تتعلق بالمصلحة العامة لصالح الجمهور. ومنها أيضاً الشرط الذي بمقتضاه تحتفظ الإدارة بحق استلزام عزل العاملين. وكذلك الشرط الذي يسمح للإدارة أن تتصرف من تلقاء نفسها لتسوية المنازعات بينها وبين المتعاقد معها.
ويعتبر مجرد الإحالة إلى قائمة الشروط الملحقة بالعقد كافية لتكوين الشرط الاستثنائي غير الموجود في عقود الأفراد. فالشروط الاستثنائية غير مألوفة في عقود القانون الخاص قد ترد في ذات العقد أو تكون مقررة بمقتضي قوانين واللوائح.
ومن أمثلة الشروط الاستثنائية التي يمكن أن تصادف في عقود القانون الخاص ما قضت به المحكمة الإدارية العليا من أنه “يبين من الإطلاع علي العقد المبرم بين الهيئة المدعية والمدعي عليها أنه قصد به تسيير مرفق عام هو مرفق العلاج. فهو عقد تقديم خدمات لمرافق عام. إذ تلتزم بموجبه المدعي عليها – لقاء تحمل الهيئة بنفقات تعليمها وإيوائها – أن تلتحق بخدمة مستشفاها لمدة الخمس سنوات التالية لإتمام دراستها. وهذا الشرط في حد ذاته يعد من الشروط الاستثنائية غير المألوفة في عقود القانون الخاص، وبالتالي فإن العقد يكون قد اتسم بالطابع المميز للعقود الإدارية من حيث اتصاله بمرفق عام، وأخذه بأسلوب القانون العام فيما تضمن من شروط استثنائية. وبهذه المثابة تدخل المنازعة المتعلقة به في دائرة اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري”.
ومن الملاحظ أن مثل هذا الشرط قد أصبح الآن شبه مألوف في عقود القانون الخاص، إذ تقوم كثير من الشركات الكبري بإعداد العمالة اللازمة لها بالكيفية التي تتناسب معها، على نفقتها، مع دفع مرتبات للطلبة خلال فترة التعليم، مقابل التزامهم بالعمل لديها لبضع سنين بعد تمام التعليم.
ولا يلزم أن تكون مثل هذه الشروط غير مشروعة إذا ذكرت في عقد من عقود القانون الخاص، بل يكفي أنها لا تقابل عادة لصاح أي من المتعاقدين فيها. ومن الشروط الاستثنائية ما هو مستبعد في علاقات القانون الخاص ولا يمكن أن نجده في عقود هذا القانون. ومن أمثلة هذه الشروط شرط قيام المتعاقد مع الإدارة بتمويل بعض المهام الشرطية (البوليسية).
فإذا انتفت الشروط الاستثنائية ولم يتعلق الأمر بتنفيذ مرفق عام كان العقد مدنياً. وقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن عقد الإيجار الذي قدمته جهة الإدارة لا ينطوي على شروط استثنائية غير مألوفة في مجال القانون الخاص ويمكن أن يضفي عليه بالتالي صفة العقد الإداري. فالنص علي أن يكون تحصيل الإيجار بطريق الخصم من المرتب لابد أن يكون تسهيلاً لاستنداء الإيجار من الطاعن باعتباره من العاملين في محافظة البحر الأحمر. كما أن النص علي إخلاء المسكن عند نقل الطاعن إلي خارج المحافظة أو داخلها لا يعدو أن يكون ترديداً لحكم المادة 7/2 من القانون رقم 49 لسنة 1977 بشأن تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر. والنص علي حق المؤجر في فسخ العقد عند إخلاله بأي شرط من شروط العقد هو حكم مألوف في عقود الإيجار المدنية ….ومتي كان ما تقدم فإن عقد إيجار العين موضوع المنازعة وقد خلت نصوصه من أي أحكام استثنائية يمكن القول معها بتوافر صفة العقد الإداري فيه، لابد وأن يكون عقداً مدنياً، ومن ثم ينأي عن الاختصاص الولائي لمحاكم مجلس الدولة”.
وأضافت المحكمة الإدارية العليا المصرية أنه ” ومن أمثلة الشروط الاستثنائية أن يتضمن العقد شروطاً تخول للجهة الإدارية الحق في تعديل التزامات المتعاقد معها، وسلطة إنهاء التعاقد بإرادتها المنفردة دون حاجة لرضاء الطرف الآخر، وحق جهة الإدارة في تغيير طريقة التنفيذ، وحقها في توقيع العقوبات على المتعاقد معها دون حاجة إلى وقوع ضرر أو الالتجاء إلى القضاء. فإذا لم يتضمن العقد شروطاً استثنائية فإنه لا مناص من خضوعه لأحكام القانون الخاص، إذ ينتفي عنه عندئذ وصف العقد الإداري”.
وقد توسع مجلس الدولة الفرنسي في تأويل فكرة الشرط الاستثنائي فقضي باعتبار العقد إدارياً رغم أنه لا يتضمن صراحة شروطاً استثنائية، ولكن النظام القانوني الذي تولد عن تطبيقه يعتبر استثنائياً ولا يصادف في مجال القانون الخاص. أي أنه تجاوز الأسباب التي يمكن أن تجعل العقد إدارياً – وهي احتوائه علي الشروط الاستثنائية – إلى النتائج التي تمخض عنها تطبيق العقد الذي لم يتضمن صراحة مثل هذه االشروط. ومعني ذلك أن استعراض نصوص العقد وتحليل بنوده لم يعد يكفي للاعتراف بالصفة الإدارية للعقد أو نفيها، وإنما يجب على القاضي أن يذهب لأبعد من هذا في تقصيه لحقيقة العقد ليتعرف علي طبيعة النظام القانوني الذي نشأ عن التطبيق العملي للعقد.
ويري بعض الفقهاء أن فكرة النظام الاستثنائي تعتبر فكرة تكميلية بالنسبة لفكرة الشرط الاستثنائي.
ونري أن منطق القانون يقضي بأن تكييف العقد لمعرفة صفته الإدارية أو المدنية ينبغي أن يستند إلي نصوص العقد وشروطه عند إبرامه، وليس علي النظام القانون الفعلي الذي ترتب عليه عند تنفيذه. ذلك لأن هذا النظام القانوني الفعلي الذي ظهر عند التنفيذ إذا اختلف عن شروط العقد فإنه يخالفها ومن حق المتعاقد مع الإدارة عند مخالفة شروط العقد المتفق عليها أن يعترض على ذلك سواء لدي الإدارة المتعاقدة أو أمام القضاء بالطرق المقررة قانوناً. فإذا لم يحدث شيء من ذلك وسكت المعاقد مع الإدارة على تلك المخالفات، فإن هذا يفيد رضاه بها ويشير إلى وجود شروط استثنائية ضمنية يحتويها العقد رغم عدم النص عليها كتابة، وقد يكون الاتفاق قد تم عليها شفاهة.
غير أنه في مجال المرافق الاقتصادية – الصناعية أو التجارية – يجب التفرقة بين العقود التي تبرمها فيما يتعلق بتنظيمها وتسييرها، وهي تكون إدارية باحتوائها على بعض الشروط الاستثنائية غير المألوفة في عقود القانون الخاص، وبين العقود التي تبرمها مع المستفيدين بخدماتها، والتي تعتبر – كقاعدة عامة – من عقود القانون الخاص. وإن احتوت علي بعض الشروط غير المألوفة التي يمكن مقابلتها في عقود الإذعان. وذلك لأن هذه المرافق لا تتعامل مع الجمهور – الذي تقدم له خدماتها – باعتبارها سلطة عامة، وإنما تقدم للمستفيدين منها خدمات مماثلة لتلك التي تقدمها المشروعات الخاصة وفي ظروف مشابهة، مما لا يتوافق مع خضوعها لأحكام القانون العام.
وفي مجال المرافق الاقتصادية أكدت الجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع بمجلس الدولة المصري أنه …. “لما كان الثابت من الإطلاع علي العقد المبرم بين هيئة البريد ووزارة السياحة أن الهيئة المذكورة استأجرت بموجب هذا العقد محلا بالسوق السياحي بالأقصر يشتمل علي مكتب البريد وسكن للوكيل، وأن هذا العقد لا يتضمن أية شروط استثنائية، ومن ثم فإنه يعتبر من عقود القانون الخاص، ويخضع لأحكام قانون إيجار الأماكن”.
معيار الشرط غير المألوف
اختلف في تعريف الشرط غير المألوف وفي تحديد المعيار الذي يرجع إليه لتمييزه فعرفه مجلس الدولة الفرنسي منذ أكثر من نصف قرن بأنه “الشرط الذي يمنح أطراف العقد حقوقاً أو يحملهم بالتزامات غريبة بطبيعتها عن تلك التي يمكن أن يتم التراضي عليها طواعية في إطار القانون الخاص” وقد تبين أن هذا المعيار ضيق وغير جامع، لأن كثيراً من الشروط التي تعتبر استثنائية أو مجحفة، طبقا لهذا المعيار يمكن أن تظهر في عقود القانون الخاص.
وعرفت محكمة تنازع الاختصاص الفرنسية الشرط غير المألوف تعريفاً أكثر توافقاً مع أحكام القضاء فجعلته يتمثل في كون حقوق والتزامات المتعاقدين المتبادلة تختلف عن تلك التي تنتج عادة من عقود القانون الخاص. وهذه الشروط لا توجد عادة في عقود القانون الخاص لأحد الأسباب التالية:
وقد يرجع تحديد وصف الشرط بأنه غير مألوف في عقود القانون الخاص إلي القاضي الإداري أو إلي القاضي العادي أو إلي محكمة تنازع الاختصاص، حسب ظروف نظر الدعوي. لذلك قد يحدث تردد أو خلاف حول شرط من الشروط. من ذلك مثلا شرط فسخ العقد بالإرادة المنفردة للإدارة في حالة إخلال المتعاقد مع الإدارة ببعض التزاماته. فقد اعتبرته محكمة النقض الفرنسية لا يدخل ضمن الشروط غير المألوفة في عقود القانون الخاص، بينما اعتبره مجلس الدولة الفرنسي ومحكمة التنازع من الشروط غير المألوفة.
وأيا كان المعيار الذي يمكن الاستناد إليه لتمييز الشرط غير المألوف، فإن تطبيقه العملي يمكن أن يؤدي إلي نتائج مختلفة. فشرط من الشروط قد تعتبره إحدي المحاكم غير مألوف في عقود القانون الخاص، بينما تعتبره محكمة أخري مألوفاً. وذلك لأن الأمر لا يتعلق بمعيار رقمى ليس من شأنه أن يثير الخلاف بين المطبقين.
ويلاحظ أن الشرط غير المألوف الذي يجعل عقد الإدارة إدارياً لا يتحقق إذا فرض التزامات علي عاتق الإدارة. وذلك لأن الأمر في هذه الحالة لا يتعلق بسلطات لصالح الإدارة أو التزامات علي عاتق الطرف الآخر.
وقد رفض القضاء اعتبار بعض الشروط شروطاً فادحة أو استثنائية غير مألوفة في عقود القانون الخاص. ومن هذه الشروط:
ويدل وجود الشرط غير المألوف في العقد على اتجاه إرادة الطرفين إلى اعتبار العقد إدراياً. لذلك قيل أن قصد المتعاقدين الخضوع لأحكام القانون العام أو الخاص يتضح من شروط العقد. ولا شك أن لأطراف العقد حرية تحديد الشروط التي سيتم فيها تقديم الأداءات المتقابلة تنفيذاً للعقد. ويقوم القاضي بتقدير ما إذا كانت هذه الشروط تتوافق مع نظام القانون الإداري. وتخضع تبعاً لذلك لاختصاص القضاء الإداري أم لا.
ومعني ذلك أن إرادة المتعاقدين لها دور لا يمكن إنكاره في تحديد الاختصاص القضائي عن طريق تحديد شروط العقد. وذلك رغم أن تحديد الاختصاص القضائي هو أصلا من النظام العام الذي لا يجوز الاتفاق علي مخالفته. وهنا لا توجد مخالفة لقواعد الاختصاص، لأن القانون يخول الأفراد سلطة تحديد شروط العقد. ومن خلال تقدير القاضي لهذه الشروط يتحدد القضاء المختص.
والشرط غير المألوف في العقد الإداري – كسلطة الفسخ أو الرقابة – هو غالباً مجرد تكرار لقواعد عامة مطبقة في مختلف العقود الإدارية. وهو يدل على وجود سلطة عامة، وعلي خضوع العقد لأحكام القانون العام.
2- تنفيذ مرفق عام:
2- تنفيذ مرفق عام:
أي أن يتولي المتعاقد مع الإدارة بمقتضي العقد تنفيذ أحد المرافق العامة، حتي ولو لم يتضمن العقد شروطاً استثنائية غير مألوفة في معاملات الأفراد في القانون الخاص. وذلك كعقد امتياز المرافق العامة. أما العقد الذي يتمثل موضوعه في إشباع حاجة من حاجات أحد المرافق العامة – كتوريد بعض السلع مثلاً – ولا ينصب علي تنفيذ المرفق ذاته فلا يعتبر عقداً إدارياً ما لم يتضمن شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص. وواضح من ذلك أن الحالات التي يقوم فيها الأفراد بتنفيذ مرفق عام لا تعد كثيرة إذا ما قورنت بالحالات التي يتضمن العقد فيها شروطاً غير عادية بالنسبة لعقود القانون الخاص. وهذا يبين مدي أهمية الشروط غير المألوفة كمظهر أساسي من مظاهر استخدام الإدارة لوسائل القانون العام في إبرام العقود.
ويرى بعض الفقهاء الفرنسيين أن تكليف أحد الأفراد بتنفيذ مرفق عام يتضمن في حد ذاته شرطاً غير عادي بالمقارنة بما يحدث في إطار القانون الخاص، إذ ليس من المألوف في هذا القانون أن يأخذ أحد الأفراد علي عاتقه مسئولية تنفيذ مرفق عام. وعلي العكس من ذلك ينتقد البعض الآخر بشدة فكرة الشروط غير المألوفة في القانون الخاص، قائلين أن الباحث يمكن أن يجد لمثل هذه الشروط أمثلة كثيرة في القانون الخاص وعلي وجه الخصوص في العقود التي تبرمها الشركات الكبيرة، وأن وجود بعض هذه الشروط في العقد الذي تبرمه الإدارة ليس إلا دليلاً علي اتجاه إرادة المتعاقدين إلي خضوع العقد لأحكام القانون العام، وأنه يجب الرجوع إلى فكرة الإرادة كمعيار لتمييز العقد الإداري، سواء أكانت هذه الإرادة هي إرادة طرفي العقد أم القضاء أم المشرع.
وقد أكد مجلس الدولة الفرنسي الصفة الإدارية للعقد إذا كان موضوعه تنفيذ مرفق عام في أحد أحكامه الهامة التي أرست بعض مبادئ القانون الإداري. وكان الأمر يتعلق بعقد أبرم بين السيد تيروت ومدينة مونبلييه يتعلق بجمع أو التقاط الحيوانات النافقة والكلاب الضالة من الأماكن العامة. فحدث نزاع بين المتعاقد والمدينة. فجاء في الحكم أن المتعاقد بممارسته لهذا النشاط إنما يساهم في تأمين الصحة العامة. وبالتالي فإن المهمة التي يقوم بها يمكن تكييفها بأنها مهمة مرفق عام. وحيث أن العقد مبرم مع شخص عام ويتضمن مثل هذه المهمة فإنه يعتبر إذا عقداً إدارياً.
وكانت الفكرة في البداية تكاد تنحصر في تنفيذ المرفق العام بواسطة المتعاقد مع الإدارة. ولكن المعيار قد اتسع بصفة تدريجية فدخلت فيه حالات يتصل فيها المتعاقد مع الإدارة من قريب أو من بعيد بتنفيذ المرفق العام. وذلك سواء أكان المتعاقد يساهم فيه، أم يشارك بأحد طرق تنفيذه، أم يقدم للمرفق وسائل التنفيذ، بل وحتي لو كان هو محل المرفق أو موضوعه.
وقد اعتبر القضاء الفرنسي من العقود الإدارية لأن موضوعها تنفيذ مرافق عامة ما يلي:
غير أن فكرة تنفيذ المرفق العام كمعيار للعقد الإداري قد مرت بمرحلة حرجة استمرت ما يقرب من ثلاثين عاماً، صدرت خلالها أحكام شاذة تفتقد المنطق، ففي حكم مازيراند قررت محكمة تنازع الاختصاص الفرنسية تطبيق نظامين قانونيين علي نفس العقد. وكان الأمر يتعلق بشخص استخدم بواسطة إحدي البلديات للقيام ببعض الأعمال المنزلية كتشغيل أجهزة التدفئة في مدرسة. وخلال مدة تنفيذ العقد طلب منه بالإضافة إلى ذلك رعاية الأطفال خلال فترة تناول الغذاء والاستراحة أو الفسحة المدرسية. وحدث نزاع صدرت بشأنه أحكام متناقضة من القاضي العادي والقاضي الإداري، فتدخلت محكمة التنازع لحسم الموضوع فقررت أنه بالنسبة للفترة الأولي يتعلق الأمر بعقد من عقود القانون الخاص الذي يخضع للقاضي العادي. أما بالنسبة للفترة الثانية التي كلف فيها برعاية الأطفال، فإن العقد يعتبر إدارياً ويخضع للقاضي الإداري نظراً لوجود مساهمة في تنفيذ مهمة مرفق عام.
وقد عدلت محكمة التنازع عن هذا الاتجاه الغريب بعد الانتقادات الشديدة التي وجهت إليه، وذلك في حكم روكيه عام 1992، وحكم منطقة رون الألب عام 1996. ففي الحكم الأول كانت الدعوي تتعلق بشخص مكلف بتشغيل مقصف مدرسي، بالإضافة إلي القيام مؤقتاً ببعض أعمال التنظيف، وقد ثار النزاع وحول مقابل الأعمال الأخيرة. فقضت محكمة التنازع بأن الشخص يساهم مباشرة في تنفيذ مرفق عام، وتظل علاقته من علاقات القانون العام، رغم أن النزاع قد أثير بمناسبة قيامه ببعض الأعمال التي لا تدخل في نطاق هذه المهمة. وفي الحكم الثاني أكدت المحكمة بعبارات قاطعة هجرها لذلك الاتجاه الغريب الذي ظل محلاً للنقد خلال ثلاثة عقود.
إدعاء شرط واحد:
غير أن أهمية شرط استعمال الإدارة لوسائل القانون العام في العقد الذي تبرمه – أيا كانت مظهره – يجب إلا تدفع إلى إلي القول بالاكتفاء بهذا الشرط وحده كمعيار لتميز الإداري بحجة أن الإدارة وحدها هي التي يحق لها استخدام أساليب القانون العام، وبالتالي فلا داعي لاشتراط أن تكون الإدارة طرفاً في العقد.
فهذا القول في الحقيقة غير مقبول لأن أحد الأفراد قد يقوم بناء علي موافقة الإدارة بممارسة بعض امتيازات السلطة العامة. ولكن هذا لا يعني حتماً أن العقود التي يبرمها هذا الشخص متضمنة شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص تعد عقوداً إدارية. ومن المعروف أن القضاء الإداري إذا كان يعتبر مثل هذ الشروط من أساليب القانون العام، فإن بعضها يمكن مقابلته في العقود المدنية. وذلك كاشتراط الإدارة على طلبة أحد المعاهد التعليمية العمل لديها لمدة معينة بعد التخرج مقابل تعهد الإدارة بالانفاق عليهم طوال مدة التعليم المهني. فبناء علي وجود هذا الشرط في العقد اعتبره القضاء إدارياً رغم أن بعض الشركات تلجأ إلى نفس الطريقة في تكوين عمالها في ظل أحكام القانون الخاص.
ادعاء شرط ثالث:
يضيف بعض الفقهاء إلي شرطي العقد الإداري سالفي الذكر شرط ثالث – أكدته المحكمة الإدارية العليا- يلزم توافره لاعتبار العقد إدارياً- ومقتضاه تعلق العقد بأحد المرافق العامة. فيجب طبقاً لهذا الرأي أن يكون موضوع العقد في جميع الأحوال متصلا بمرفق عام بأن يتعلق بتنظيمه أو تشغيله أو المساهمة في أعماله. وذلك لأن اعتبار العقد إدارياً وخضوعه لأحكام القانون العام بما تتضمن من امتيازات للإدارة إنما تبرره اعتبارات المرافق العامة وتحقيقها للصالح العام. فإذا لم يتصل العقد علي هذا النحو بمرفق عام بأن تعلق بإدارة بعض الأموال الخاصة للإدارة مثلاً فإنه لا يعد عقداً إدارياً.
وعلي عكس اتجاه مجلس الدولة الفرنسي أكدت محكمة تنازع الاختصاص في حكمها الصادر في 28/1/2001 أن العقد الذي يبرمه أحد أشخاص القانون الخاص دون مساهمة في تنفيذ مرفق عام لا يعتبر عقداً إدارياً وإنما هو عقد من عقود القانون الخاص.
ونري أنه لا لزوم لمثل هذا الشرط إذ أن اشتراط أن تأخذ الإدارة في العقد بأساليب القانون العام يكاد يتضمنه ويغني عنه في معظم الأحوال إذ أن الإدارة غالباً ما لا تلجأ إلي وسائل القانون العام إلا عندما يتعلق الأمر بالمرافق العامة. كما أن التعلق بالمرافق العامة في ذاته ليس دليلاً على الخضوع لأحكام القانون العام كما سبق البيان. ويؤيد القضاء الفرنسي هذا الاتجاه ويري أن العقد يمكن أن يكون إدارياً ولو لم يتعلق بمرفق عام ما دام يتضمن بعض الشروط الاستثنائية غير المألوفة في عقود القانون الخاص.
وقد حرصت المحكمة الإدارية العليا على تأكيد أن شرط التعلق بمرفق عام يتضمن شروطاً غير مألوفة في نطاق القانون الخاص. والتعلق باحتياجات المرفق العام وتسييره يعني أن الإدارة لا تبرم العقد بقصد الربح “وإنما لتسيير المرفق في نطاقه العام بالوصول إلى الهدف الذي قام لتحقيقه”.
راجع في ذلك : العقد الإداري للدكتور / ماجد راغب الحلو.
Cookie | Duration | Description |
---|---|---|
cookielawinfo-checkbox-analytics | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Analytics". |
cookielawinfo-checkbox-functional | 11 months | The cookie is set by GDPR cookie consent to record the user consent for the cookies in the category "Functional". |
cookielawinfo-checkbox-necessary | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookies is used to store the user consent for the cookies in the category "Necessary". |
cookielawinfo-checkbox-others | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Other. |
cookielawinfo-checkbox-performance | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Performance". |
viewed_cookie_policy | 11 months | The cookie is set by the GDPR Cookie Consent plugin and is used to store whether or not user has consented to the use of cookies. It does not store any personal data. |