برئاسة السيد الأستاذ المستشار/ ربيع عبد المعطي أحمد الشبراوي
نائب رئيس مجلس الدولة
وعضوية السادة الأساتذة المستشارين/ عادل فهيم محمد عزب، وسمير يوسف الدسوقي البهي، وعاطف محمود أحمد خليل، ود. محمود سلامة خليل السيد
نواب رئيس مجلس الدولة
(أ) قرار إداري– ركن السبب- رقابة القضاء الإداري على مشروعيته- يقتصر دورُ القضاء على بحث مصداقية السبب الذي أفصحت عنه جهة الإدارة للقرار، ولا يسوغ له أن يتعداه إلى ما وراء ذلك بافتراض أسبابٍ أخرى يُحْمَلُ عليها القرارُ- صحة القرار الإداري تتحدد بالأسباب التي قام عليها, ومدى سلامتها على أساس الأصول الثابتة في الأوراق وقت صدور القرار، ومدى مطابقتها للنتيجة التي انتهى إليها([1]).
(ب) قرار إداري– انعدام القرار الإداري- إذا كان فقه القانون يمزج بين الشرعية والاستقرار في تَبَيُّن الحقوق والمراكز القانونية, وَيَجْدِلُ منهما معًا هياكلَ الحقوق والمراكز القانونية, بما تترابط به وشائجُ العللِ والمعلولاتِ بين الشرعية والاستقرار، فإن الإفساح في الانعدام من شأنه تغليب عنصر الشرعية, والتضييق فيه يُغَلِّبُ عنصر الاستقرار- لئن كان مقتضى القياس المنطقي على ما قرَّره القانونُ من عيوبٍ تشوبُ القرارَ، والتي قد تمسُّ ولاية مُصْدِرِه، أو تنحرف بركن الغاية منه، أن الخروج على أُطر الولايةِ العامة هو مما يجنح بالتصرف إلى مشارف العدم, إلا أن القانون غَلَّبَ عنصر الاستقرار؛ مراعاةً لِما يتعلق بالتصرف المعيب في مجال الولايات العامة من أعمالٍ متتابعة وآثارٍ متعاقبة, يتداخل بعضها في بعض بما قد يصعب حصره ومتابعته- أَفْسَحُ ما اتَسَعَ النظرُ الإفتائي والقضائي في شأن انعدام القرار الإداري يَرِدُ في حالات غصب السلطة, الذي يَبْلُغُ عدمُ الاختصاصِ فيها حدًّا يُفْقِدُ مُصْدِرَ القرار أية ولاية له في إصداره, مما ينـزلُ به إلى درجة العمل المادي المعدوم الأثر قانونًا, وكذلك في حالاتِ الغش الذي يُفسِدُ كلَّ التصرفات في أيٍّ من مجالاتِ النظر القانوني, وفقدانِ ركنِ النية في إصدار القرار الإداري.
(ج) قرار إداري– تحصن القرار الإداري- هناك فرق بين القرار المعيب (الباطل) الذي يتحصن بعدم سحبه أو الطعن عليه خلال المدة القانونية المعينة, والقرار المعدوم الذي لا يتحصن مهما طال عليه الزمنُ- القرارات الإدارية التي تُوَلِّدُ حقًّا أو تُنْشِئُ مركزًا ذاتيًّا لا يجوزُ سحبُها متى صدرت صحيحةً- يجوز الطعن على القرار المعيب من ذي مصلحة, خلال الموعد القانوني, ويجوز سحبه من الجهة التي أصدرته, طوال مدة بقائه مُهَدَّدًا بالإلغاء- يتحصن القرار المعيب بانقضاء مواعيد الطعن القضائي عليه بغير طعنٍ فيه ولا سحبٍ له, أما إذا كان القرار مُنْعَدِمًا, فلا يلحقُه تحصن- جعل المشرِّعُ سحب القرار فرعًا من الطعن، ميعادًا وأسبابًا.
(د) أكاديمية الشرطة– شئون الطلاب- شرط اللياقة الصحية- قرار إلحاق الطالب بأكاديمية الشرطة رغم أن لديه ضعفًا في الإبصار يقع مخالفًا للقانون، إلا أن أثر ذلك لا يتعدى حدَّ البطلان إلى الانعدام، مادام هذا الطالب حائزًا للتأهيل الدراسي المتطلب قانونًا للالتحاق بكلية الشرطة, وأن ضعف الإبصار الموجود لديه لا يُعَدُّ جسيمًا بحيث يفقده القدرة على الانخراط في الدراسة والتأهيل الشرطي- لا يجوزُ للجهة الإدارية سحب قرار قبول مثل هذا الطالب بعد تحصنه, مادام لم يقم به سببٌ من أسباب الانعدام التي حدَّدها القضاء حصرًا، وهي عيب عدم الاختصاص الجسيم، والغش والتدليس.
– المواد (7) و(11) و(12) من القانون رقم 91 لسنة 1975 بإنشاء أكاديمية الشرطة, وتعديلاته.
– المادة (1/2) من اللائحة الداخلية لأكاديمية الشرطة، الصادرة بقرار وزير الداخلية رقم 864 لسنة 1976, وتعديلاتها.
في 5/5/2014 أودع وكيل الطاعن (المحامي بالنقض والإدارية العليا) قلم كتاب المحكمة تقريرًا بالطعن الماثل في الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإداري (الدائرة السادسة) في الدعوى رقم 27/3/2014, الذي قضى بقبول الدعوى شكلا، وبرفض طلب وقف تنفيذ القرار المطعون فيه، وإلزام المدعي مصروفاته، وبإحالة الدعوى إلى هيئة مفوضي الدولة لإعداد تقرير بالرأي القانوني في موضوعها.
وطلب الطاعن في تقرير الطعن -لِما ورد به من أسباب- الحكم بقبول الطعن شكلا، وبوقف تنفيذ الحكم المطعون فيه، وفي الموضوع بإلغائه، والقضاء مجددًا بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه فيما تضمنه من رفض قبول نجله بكلية الشرطة، مع ما يترتب على ذلك من آثار، وإلزام جهة الإدارة المصروفات.
وأعدت هيئة مفوضي الدولة تقريرًا بالرأي القانوني في الطعن.
وجرى نظر الطعن أمام المحكمة على النحو الثابت من محاضر الجلسات، وقد أرجأت المحكمة إصدار الحكم فيه لجلسة اليوم، وفيها صدر، وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه عند النطق به.
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة قانونًا.
وحيث إن الطعن قد استوفى جميع أوضاعه الشكلية، فمن ثم يكون مقبولا شكلا.
وحيث إن عناصر هذه المنازعة تخلص -حسبما يبين من الأوراق- في أن الطاعن (بصفته وليًّا طبيعيًّا على نجله) كان قد أقام الدعوى الصادر فيها الحكم الطعين بموجب عريضة أودعت قلم كتاب محكمة القضاء الإداري (الدائرة السادسة) بتاريخ 10/9/2013، طلب في ختامها الحكم (أولا) بوقف تنفيذ وإلغاء قرار مجلس إدارة أكاديمية الشرطة المنعقِد بتاريخ 29/9/2013، والمعتمَد من وزير الداخلية بتاريخ 2/10/2013، فيما تضمنه من سحب قرار قبول نجله بكلية الشرطة، مع ما يترتب على ذلك من آثار، أخصها منحه شهادة تفيد قيده بكلية الشرطة بالعام الدراسي 2013/2014، وذلك لتوجيهها للقوات المسلحة, (ثانيًا) بإلزام جهة الإدارة أن تؤدي له التعويض الجابر للأضرار المادية والأدبية التي حاقت به من جراء القرار المطعون فيه، وإلزام الجهة الإدارية المصروفات.
وذكر شرحًا للدعوى: إنه تمَّ قبولُ نجله بكلية الشرطة بالعام الدراسي 2013، وقام بإثبات حضوره بالأكاديمية، واستخراج كارنيه من الكلية عن العام الدراسي 2012/2013، كما قام باستخراج بطاقة رقم قومي مُدوَّن بها أنه طالبٌ بكلية الشرطة، وبتاريخ 7/4/2013 حصل على شهادة من كلية الشرطة تفيد بأنه طالبٌ بالكلية بالسنة الأولى لتقديمها لمصلحة الجوازات والجنسية، وبناءً عليها استخرج جواز سفر, وأضاف قائلا إنه فُوجِئَ أثناء وجود نجله بمنـزله بإدارة تجنيد مركز ديروط تطلبُ حضورَه للتجنيد، فقام بتقديم المستندات المشار إليها, بيد أن إدارة التجنيد طالبته بضرورة إحضار شهادة من كلية الشرطة تفيد قيده بالكلية عن العام الدراسي 2013، فتقدم بطلب لكلية الشرطة للحصول على تلك الشهادة, إلا أنها امتنعت عن منحها له مما يُشكِّل قرارًا سلبيًا، وخلص في ختام عريضة دعواه إلى الطلبات المبينة سالفًا.
………………………………………………….
وبجلسة 27/3/2014 أصدرت المحكمة حكمها الطعين، وشيَّدته -بعد استعراض نص المادة (101) من قانون الإثبات، ونص المادة (11) من القانون رقم 91 لسنة 1975 في شأن أكاديمية الشرطة، وكذلك نص المادة الثانية من قرار وزير الداخلية رقم 14162 لسنة 2001- على أن القرار المطعون فيه قد جاء متضمنًا سحب قرار قبول المدعي بكلية الشرطة إعمالا لرأي إدارة الفتوى المختصة بمجلس الدولة، ورأي المستشار القانوني لأكاديمية الشرطة، ولِما أسفر عنه توقيعُ الكشف الطبي عليه من عدم لياقته الصحية للالتحاق بكلية الشرطة لضعف الإبصار، ومن ثم يكون القرار متفقًا وصحيح حكم القانون, مما يجعل قرار إلحاقه بكلية الشرطة قرارًا معدومًا لا تلحقه أية حصانة، ودون حاجة لبحث ركن الاستعجال لعدم جدواه، فقد خلصت المحكمة إلى حكمها المبين سالفًا.
………………………………………………….
وإذ لم يلقَ هذا القضاء قبولا من الطاعن فقد طعن عليه بالطعن الماثل, لأسباب حاصلها مخالفته للقانون، والخطأ في تطبيقه وتأويله، ذلك أن قضاء المحكمة الإدارية العليا قد حصر نظرية الانعدام، وما يترتب عليها من حق جهة الإدارة في سحب قراراتها, في حالات على سبيل الحصر لا المثال، وهي عيب عدم الاختصاص الجسيم، والغش والتدليس، وعدا ذلك يستقر المركز القانوني الذي يرتبه القرار غير المشروع بعد فوات ستين يومًا دون سحبه أو إلغائه، وأنه قد قام باستكمال جميع الاختبارات المقررة بعد الكشف الطبي للالتحاق بكلية الشرطة، بالإضافة إلى أن اللجنة الطبية العليا المكونة من استشاري الرمد بمستشفى الشرطة بالعجوزة قد انتهت إلى عدم وجود آثار إصلاح عيب بإبصاره، وخلص الطاعن إلى طلباته المشار إليها.
………………………………………………….
وحيث إن من المقرَّر أنه يلزم للقضاء بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه على وفق حكم المادة (49) من قانون مجلس الدولة، توفر ركني الجدية والاستعجال, بأن يكون هذا القرار بحسب الظاهر من الأوراق مرجح الإلغاء، وأن يكون من شأن تنفيذه تحقق نتائج يتعذر تداركها.
وحيث إنه عن ركن الجدية، فإن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أنه من المقرر عند بحث مشروعية القرار الإداري، فإن دور القضاء يقتصر على بحث مصداقية السبب الذي أفصحت عنه جهة الإدارة للقرار، ولا يسوغ له أن يتعداه إلى ما وراء ذلك بافتراض أسباب أخرى يحمل عليها القرار، بحسبان أن صحة القرار الإداري تتحدد بالأسباب التي قام عليها, ومدى سلامتها على أساس الأصول الثابتة في الأوراق وقت صدور القرار، ومدى مطابقتها للنتيجة التي انتهى إليها. (في هذا المعنى: حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 22916 لسنة 52ق.عليا بجلسة 26/6/2013).
وحيث إن المادة السابعة من القانون رقم 91 لسنة 1975 بشأن إنشاء أكاديمية الشرطة (المعدَّل بالقانونين رقمي 53 لسنة 1978, و30 لسنة 1994) تنص على أن: “يختص مجلس إدارة الأكاديمية بما يأتي:
(1)… (2) وضع نظام قبول الطلاب والدارسين بالأكاديمية، وتحديد أعدادهم بما يتفق مع سياسة الوزارة وحاجاتها العملية…”.
وتنص المادة العاشرة من القانون نفسه (مُعدَّلة بالقانونين رقمي 153 لسنة 2002, و155 لسنة 2004) على أنه: “يُشترَطُ فِيْمَنْ يُقبَلُ بكلية الشرطة وقسم الضباط المتخصصين:
(1) أن يكون مصري الجنسية,…
(2) أن يكون محمود السيرة حسن السمعة.
(3) ألا يكون قد سبق الحكم عليه بعقوبة جناية في إحدى الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات,…
(5) أن يكون مستوفيًا شروط اللياقة الصحية والبدنية والسن التي يحددها المجلس الأعلى للأكاديمية…
(7) بالنسبة لطلبة كلية الشرطة يختارون من بين المتقدمين من المصريين الحاصلين على شهادة إتمام الدراسة الثانوية العامة أو ما يعادلها أو شهادة إتمام الدراسة الثانوية العامة التي تمنحها المعاهد الثانوية الأزهرية, مع مراعاة النسبة المئوية لمجموع درجات النجاح، وذلك وفقًا للشروط والأوضاع التي يقررها المجلس الأعلى للأكاديمية”.
وتنص المادة (11) من القانون نفسه (مُعدَّلة بالقانون رقم 30 لسنة 1994) على أن: “تشكل لجنة قبول الطلاب بكلية الشرطة برئاسة رئيس أكاديمية الشرطة, وعضوية كل من:
1- نائب رئيس الأكاديمية.
2- نائب رئيس قطاع مباحث أمن الدولة.
3- مدير كلية الشرطة.
4- مدير الإدارة العامة لشئون الضباط.
5- وكيل مصلحة الأمن العام.
ولا تكون قراراتها نافذة إلا بعد اعتمادها من وزير الداخلية”.
وتنص المادة (12) من القانون المذكور سالفًا على أنه: “… وتنظم اللائحة الداخلية أوضاع وإجراءات قبول الطلاب ونظام التثبت من الصلاحية”.
وحيث إن المادة الأولى من اللائحة الداخلية لأكاديمية الشرطة الصادرة بقرار وزير الداخلية رقم 864 لسنة 1976 -وتعديلاتها- تنص على أن: “يكون نظام قبول الطلبة الجدد وفقًا لِما يأتي:…
2- اللياقة الصحية: يجب أن تقرر الجهة الطبية المختصة استكمال الطالب لشروط اللياقة الصحية والنفسية المطلوبة للعمل الأمني, على ألا تقل درجة إبصاره بالعين المجردة (1,5) في العينين، ولا يزيد عن الثلثين في كل منهما على حده,… ولا يعتبر الطالب المتقدم للالتحاق بالكلية مقبولا إلا بعد اجتيازه بنجاح الكشف الطبي المتقدم الذي تجريه اللجنة الطبية المتخصصة…”.
وحيث إن مناط الفصل في هذا الطعن, هو مدى توفر أو عدم توفر شرط اللياقة الصحية في قرار القبول بكلية الشرطة, ومدى تأثيره في انعدام القرار المذكور من عدمه.
وفي مجال التمييز بين القرار الإداري المعيب الذي يتحصن بعدم سحبه ولا الطعن عليه خلال المدة القانونية المعينة, والقرار الإداري المعدوم الذي لا يتحصن مهما طال عليه الزمن -في هذا المجال- عرضت الجمعيةُ العمومية لقسمي الفتوى والتشريع لبحث حد الجسامة الذي يفرق بين القرار المعيب القابل للتحصن, والقرار المنعدم غير القابل للتحصين, واستعرضت سوابق الأحكام والإفتاء, وتداولت في تبين ملامح حد الجسامة من أجل أن يدق ميزان التفرقة وينضبط دون جمود.
والحاصل أن القرارات الإدارية التي تُوَلِّدُ حقًّا أو تُنْشِئُ مركزًا ذاتيًّا لا يجوزُ سحبُها متى صدرت صحيحةً؛ وذلك استجابة لدواعي المشروعية بحسبان صحة القرارِ، واستقرارًا للأوضاع بحسبان ما أنشأ القرارُ من مراكزٍ قانونية وما وَلَّدَ من حقوقٍ, أما القرار المعيب فيجوزُ الطعنُ عليه من ذي مصلحة في هذا الطعن خلال الموعد الذي رسمه القانون, ويجوزُ سحبُه من الجهة التي أصدرته, طوال مدةِ بقاءِ القرارِ المعيب قلقًا مُهَدَّدًا بالإلغاء, سواء لانفتاح موعد الطعن فيه, أو لإقامة الطعن فعلا حتى يُفْصَل فيه, فإن انتهى ذلك بغير قضاءٍ بالإلغاء صار القرارُ حصينًا من الإلغاء والسحب معًا, ويترتبُ عليه ما يترتب على القرار الصحيح غير المشوب بأيِّ عيبٍ؛ وذلك إقرارًا بما وَلَّدَ من حقوقٍ فردية, وإقرارًا لِما أنشأ من مراكز ذاتية.
والقانون في كل فروعه يمازج بين الشرعية والاستقرار, ويجدِلُ منهما معًا هياكل الحقوق والمراكز القانونية, بما تترابط به وشائج العلل والمعلولات بين الشرعية والاستقرار, والقرار المعيب تشوبه مخالفة القانون, أو مخالفة الشكل القانوني, أو مخالفة الاختصاص, أو الانحراف في استعمال السلطة, وإذا اعترته هذه العيوب جميعًا, أمكن أن يتحصن بانقضاء مواعيد الطعن القضائي عليه بغير طعنٍ فيه ولا سحبٍ له, وذلك إلا أن يكون القرارُ مُنْعَدِمًا, فلا يلحقُه تحصنٌ, وعيوب القرار الإداري يمكن أن تُرد جُلُّها إلى عيبِ مخالفة القانون, من حيث إن القانون هو من يرسم الاختصاصات والإجراءات وشروط منح الحق أو شغل المركز القانوني, ولكن يظل من العيوب ما يتعلق بأركان القرار بوصفه تصرفًا قانونيًا, ومن هنا يرد ركن السبب, وركن المحل, وركن الغاية، من حيث كونها المصلحة العامة الواجب تغييها، والقرار الإداري بموجب كونه إفصاحًا عن إرادةٍ مُلْزِمَةٍ, هو مما يدخل في عموم التصرفات القانونية التي يضبط فقهُ القانونِ ملامحها أوضاعًا وآثارًا.
وإذا كان فقه القانون يمزج بين الشرعية والاستقرار في تبين الحقوق والمراكز القانونية, فإن الإفساح في الانعدام من شأنه تغليب عنصر الشرعية, والتضييق فيه يُغَلِّبُ عنصرَ الاستقرار, والحال أن قانون مجلس الدولة -منذ نشأته في 1946- أكَّد على ما يشوب القرار من عيوبٍ تمسُّ ولايةَ مُصْدِرِه, من حيث نطاق الولاية وضوابطها وأشكال إعمالها, ومن حيث مدى المساس بركن الغاية المتمثل في مراعاة المصلحة العامة, مما يظهر في حالة الانحراف في استعمال السلطة العامة, وأكَّد القانون أن هذه العيوب إن شابت القرار منفردةً أو مجتمعةً, كان القرارُ محلًّا للطعنِ فيه خلال المدة المحدَّدة لرفع الدعوى, وهي ستون يومًا, وذلك يفيد أن أحد عناصر استخدام الولاية العامة في هذه الجوانب المحدَّدة بالقانون لا تفيد بذاتها انعدام القرار ولا عدم نفاذه مطلقًا.
وإذا كان مقتضى القياس المنطقي أن الخروجَ على أُطر الولايةِ العامة -مجالا أو ضوابطَ أو شروطًا- هو مما يجنحُ بالتصرفِ إلى مشارف العدم, لمساسه بمصلحة الجماعة وتعديه إلى الغير, وعدم لزومه صاحبَه مُصْدِر القرار, إلا أن القانون غَلَّبَ عنصر الاستقرار, لأن التصرفَ المعيب في مجال الولايات العامة لا يتعلقُ أثرُه بوضعٍ فرديٍّ, يَسْهُلُ رده إلى ما كان عليه ويسهل حصر آثاره المتعاقبة, كبيعٍ أو إجارةٍ أو نحوِه, بل إن هذا التصرف المعيب في مجال الولايات العامة يتعلق دائمًا بأعمال متتابعة وآثار متعاقبة, يتداخل بعضُها في بعضٍ بموجب النظام المؤسسي الذي تقوم عليه الأجهزةُ التي تمارس تلك الولايات العامة, وما تتفرع إليه من تفريعاتٍ بعضها يترتب على بعض بأصولٍ متداخلة وبفروعٍ متشابكة, والتصرفُ الإداري إن بَطُلَ أو أُلْغِيَ تترتبُ عليه من التفريعات والآثار ما قد يَصعُب حصرُه ومتابعتُه, ومن ثم رجَّح القانونُ عنصرَ الاستقرار بتحديد الأجل الذي يمكن فيه الطعن على القرار من ذي مصلحة, وجعلَ السحب فرعًا من الطعن ميعادًا وأسبابًا.
وإنَّ أَفْسَحَ ما اتَسَعَ النظرُ الإفتائي والقضائي في شأن انعدام القرار الإداري يَرِدُ في حالاتِ غصب السلطة, الذي يبلغ عدم الاختصاص فيها حدًّا يُفْقِدُ مُصْدِرَ القرارِ أية ولاية له في إصداره, مما ينـزل به إلى درجة العمل المادي المعدوم الأثر قانونًا, مثل اعتداء سلطة تأديبية على سلطة تأديبية أخرى, وكذلك اعتداء سلطة إدارية على سلطة إدارية أخرى لا تمت إليها بصلة, واعتداء سلطة إدارية على اختصاص السلطة القضائية أو السلطة التشريعية, أو عندما يتضمن القرار الإداري اعتداء على حق الملكية, باعتبار أن الملكية ليست موضوعًا لقرار إداري, وكذلك صدور القرار عن فردٍ عادي أو عن شخصٍ عادي, أو عن شخصٍ عُيِّنَ تعيينًا باطلا مع ظهور البطلان بطريقةٍ واضحة في القرار, وكذلك حالات الغش الذي يُفسد كل التصرفات في أي من مجالات النظر القانوني, وفقدان ركن النية في إصدار القرار الإداري. (فتوى الجمعية العمومية رقم 372 بتاريخ 7/6/1999 ملف رقم 86/3/962), وقريب من هذا المعنى تراجع الفتاوى: ملف رقم 86/3/755 بجلسة 7/6/1989، وملف رقم 814/3/86 بجلسة 1/12/1991, وملف رقم 86/2/232 بجلسة 3/1/1993, وتراجع كذلك الأحكام الصادرة في الطعون أرقام 1464 لسنة 32ق.ع بجلسة 10/6/1989، و1876 لسنة 39ق.ع بجلسة 27/6/1991، و4034 لسنة 40ق.ع بجلسة 16/2/2000، و8738 لسنة 49ق.ع بجلسة 17/11/2007.
وحيث إنه لما كان ما تقدم, وكان البين من الأوراق أن الطالب قد قام بسحب ملف الالتحاق بكلية الشرطة للعام الدراسي 2009/2010، وتم توقيع الكشف الطبي عليه, واعتبرته اللجنة الطبية غيرَ لائقٍ على سندٍ من أن قوة إبصار العينين (6/9 و6/9) ويوجد آثار ما بعد إصلاح العيب, بالإضافة لوجود تحدب واعوجاج في العمود الفقري، ثم تقدم مرة ثانية للالتحاق بالكلية للعام الدراسي 2010/2011, وكانت نتيجة الكشف الطبي في هذا العام هو أن الطالب غيرُ لائقٍ لسببٍ وحيد وهو ضعف الإبصار، ثم تقدم ولي أمر الطالب بالتماس لقبول نجله بالكلية، فتم عرض الطالب على لجنة طبية عليا واستشاري الرمد بمستشفى الشرطة بالعجوزة بتاريخ 8/3/2011، فقدرت أن قوة إبصار العينين (6/12)، ولا يوجد آثار إصلاح عيب إبصار بالعينين، ثم عرض على لجنة طبية أخرى بمستشفى الشرطة في 10/2/2013، والتي قدرت أن قوة إبصار العينين (6/18), مع وجود قصر نظر بالعين اليمنى بمقدار (1,75) واليسرى (1,5), ولا يوجد آثار إصلاح عيب إبصار بالعينين، وتم عرض أمر الطالب على الإدارة العامة للشئون القانونية بالوزارة فأفادت باعتماد نتيجة الكشف الطبي الموقع على الطالب في العام الأول (2009/2010) مع إسقاط ملحوظة “ويوجد آثار ما بعد إصلاح العيب”, استنادًا إلى التقرير الطبي الذي أعد في العام التالي بتاريخ 16/8/2010، وبناء عليه وافقت أكاديمية الشرطة على قبول الطالب وانتظامه بالعام الدراسي 2012/2013 على ضوء صلاحية الكشف الطبي الموقع عليه، وتم قيده بالفعل في 4/4/2013, وعلى أن تتولى كلية الشرطة إعداد برنامج تدريب مكثف له لاستكمال المقرر دراسته من الدراسات الشرطية والعملية المؤهلة للتخرج أسوة بأقرانه من طلبة الكلية، وبعد أن ترك الطالب كلية الحقوق التي كان مقيدًا بها وانتظم في الدراسة، قامت أكاديمية الشرطة في 27/7/2013 باستطلاع رأي إدارة الفتوى لوزارة الداخلية بطلب إبداء الرأي في مدى جواز سحب قرار قبول الطالب بالأكاديمية، وبتاريخ 29/9/2013 صدر قرار أكاديمية الشرطة (المعتمد من وزير الداخلية في 2/10/2013) بسحب قرار قبول الطالب من كلية الشرطة.
ولما كانت المحكمة لا تجادل في اعتبار القرار الصادر بإلحاق نجل الطاعن بأكاديمية الشرطة قد شابه البطلان, لكون الطالب لديه ضعف في الإبصار، وأن هذا القرار قد وقع مخالفًا للقانون، إلا أن أثر المخالفة للقانون في الحالة الماثلة لا يتعدى حد البطلان إلى الانعدام، مادام أن هذا الطالب حائز للتأهيل الدراسي المتطلب قانونًا للالتحاق بكلية الشرطة, وأن ضعف الإبصار الموجود لديه لا يعد جسيمًا بحيث يفقده القدرة على الانخراط في الدراسة والتأهيل الشرطي، حيث لا يوجد تفاوت فاحش بين نسبة الإبصار لدى الطالب -على نحو ما سلف بيانه- وبين النسبة التي تطلبتها المادة (1/2) من اللائحة الداخلية للأكاديمية, والتي تطلبت ألا تقل درجة الإبصار بالعين المجردة عن 1,5 في العينين ولا يزيد على (2/3) في كل منهما على حدة، وليس أدل على ذلك من أن الطاعن قد التحق بالفعل في التأهيل الشرطي شهرًا تلو الآخر، وقد خلت الأوراق مما يفيد أن هناك قصورًا أو خللا شاب أداءه بالكلية طيلة ما يزيد على خمسة أشهر، كما أن وجود آثار ما بعد إصلاح العيب في الإبصار لا يمكن أن ينهض دليلا على جسامة مخالفة القرار المسحوب, إذ إنه بمطالعة نصوص اللائحة يتبين أن إصلاح عيب الإبصار لا يعد عيبًا في ذاته يمنع من الالتحاق بكلية الشرطة، كما أن التحاق الطالب بالكلية في 4/4/2013 رغم كونه قد استنفد فرصته الثانية للالتحاق بالكلية في العام الدراسي 2010/2011 مردود عليه بأن الطاعن قد استخدم حق التظلم من القرار الصادر بتخطيه في الدفعة الأخيرة، وظل مثابرًا على هذا الدرب لما وجده من مسلك إيجابي من جانب الجهة الإدارية لإجابته لتظلمه، وكان التحاقه بالكلية استجابة لهذا التظلم، وليس من خلال التقدم فى دفعة جديدة.
ومادام لم يقم بالقرار سبب من أسباب الانعدام, كغصب السلطة, أو صدور القرار بناء على غش أو تدليس, على وفق ما جرت به أحكام هذه المحكمة، كما أن الأوراق قد أجدبت من استظهار الباعث الذي جعل الجهة الإدارية تستنهض همتها للتنقيب عن مدى انطباق شروط القبول على هذا الطالب من عدمه, بعد تركه لكلية الحقوق التي كان مقيدًا بها, وانتظامه بكلية الشرطة لما يزيد على خمسة أشهر، كما أن قضاء المحكمة الإدارية العليا قد حصر نظرية الانعدام، وما يترتب عليها من حق جهة الإدارة في سحب قراراتها, في حالات على سبيل الحصر -لا المثال-، وهي عيب عدم الاختصاص الجسيم، والغش والتدليس، وعدا ذلك يستقر المركز القانوني الذي يرتبه القرار غير المشروع بعد فوات ستين يومًا دون سحبه أو إلغائه -ولم يثبت أن أيًّا من الأمرين قد تحقق في الحالة الماثلة-, ولا مناص من الانصياع لدواعي المصلحة العامة, التي لا تستقيم موجباتها إلا باستقرار الأوضاع القانونية المترتبة على القرارات الإدارية المعيبة بعد فوات المواعيد المقررة لسحبها, والنأي بها بمنجاة من الزعزعة وأسباب الاضطراب, بمراعاة الاتساق بين الميعاد المنصوص عليه قانونًا, الذي يجوز فيه لصاحب الشأن طلب إلغاء القرار الإداري بالطريق القضائي, والميعاد الذي يباح فيه للإدارة سحب قرارها، فالاستدامة أقوى من الابتداء، ويغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء.
وحيث إنه لما كان البين من الأوراق أن الجهة الإدارية قد قامت بسحب قرار قيد الطالب بالأكاديمية بعد انقضاء أكثر من خمسة أشهر على صدوره، فمن ثم فإن القرار الساحب محل التداعي, وقد صدر بعد فوات الميعاد القانوني للسحب, فإنه يكون (أي القرار الساحب) مخالفًا للقانون, وحريًّا بالإلغاء عند بحث موضوع الدعوى، بما يتوفر معه ركن الجدية، كما يتوفر ركن الاستعجال, حيث يترتب على تنفيذ القرار المطعون فيه نتائج يتعذر تداركها, تتمثل في حرمان الطاعن من حقه في اللحاق بركب زملائه، وهو ما يؤثر من ثم في مستقبله الوظيفي، ومن ثم وإذ استقام وقف التنفيذ على ركنيه (الجدية والاستعجال)، فإنه يتعين القضاء بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه، مع ما يترتب على ذلك من آثار، وتنفيذ الحكم بمسودته دون إعلان عملا بحكم المادة (286) من قانون المرافعات لتوفر موجباته.
وإذ خلص الحكم المطعون فيه بالطعن الماثل إلى خلاف ذلك، فإنه يكون قد خالف صحيح القانون، حريًّا بالإلغاء.
وحيث إن من خسر الطعن يلزم المصروفات عملا بحكم المادة (184) من قانون المرافعات.
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه, والقضاء مجددًا بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه، مع ما يترتب على ذلك من آثار، وتنفيذ الحكم بمسودته دون إعلان، وألزمت الجهة الإدارية المصروفات.
([1]) يراجع في المبدأ نفسه: المبدآن رقما (34) و(47) في هذه المجموعة.
وراجع وقارن بحكم المحكمة الإدارية العليا الصادر في الطعن رقم 1295 لسنة 38 القضائية عليا بجلسة 4/7/1998 (منشور بمجموعة المبادئ التي قررتها في السنة 43 مكتب فني، الجزء الأول، ص 1433)، حيث تخلص الواقعة في أن مجلس إحدى الجامعات قد أصدر قرارا بسحب قرار تعيين أحد معاوني أعضاء هيئة التدريس الشاغل لوظيفة (مدرس مساعد) في وظيفة (مدرس) تأسيسا على أنه كان محالا إلى المحاكمة التأديبية وقت تعيينه فيها، وقد قرر مجلس التأديب مجازاته بتأجيل ترقيته لمدة سنة عند استحقاقها، ومن ثم لم يكن جائزا ترقيته إلى وظيفة (مدرس) طبقا لقانون نظام العاملين المدنيين بالدولة الذي يطبق على معاوني أعضاء هيئة التدريس، والذي حظر ترقية المحال إلى المحاكمة التأديبية، وقد أكدت المحكمة الإدارية العليا في حكمها أن التعيين في وظيفة (مدرس) تعيين مبتدأ وليس تعيينا متضمنا ترقية لمن يشغل وظيفة (مدرس مساعد)، وأن هذا التعيين يُتقيد فيه بما ورد بقانون تنظيم الجامعات في شأن تعيين أعضاء هيئة التدريس، لا بما ورد بقانون نظام العاملين المدنيين بالدولة، وأن الامتناع عن تعيين المدرس المساعد في وظيفة (مدرس) لكونه محالا إلى المحاكمة التأديبية غير مشروع، ومع هذا فإنه لما كان قانون تنظيم الجامعات قد اشترط أن يكون المدرس المساعد المرشح للتعيين في وظيفة (مدرس) ملتزما في عمله ومسلكه منذ تعيينه بواجباته ومحسنا أداءها، وهو شرط لازم توفره للتثبت من مدى صلاحيته لشغل وظيفة (مدرس)؛ لذا وإذ ثبت بموجب قرار مجلس التأديب أن الطاعن قد أهمل إهمالا جسيما بتركه (فوطة) ببطن إحدى المريضات أثناء إجراء عملية جراحية لها، لذا فإن القرار الصادر بتعيينه في وظيفة (مدرس) يكون قد خالف أحد الشروط المتعلقة بالكفاية اللازمة لشغل الوظيفة، مما يجعله مشوبا بعيب جسيم فلا تلحقه حصانة، ومن ثم فإن قرار سحب قرار تعيينه في وظيفة (مدرس) يكون متفقا والقانون.
وراجع في هذا الاتجاه أيضا حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 1723 لسنة 2ق بجلسة 25/1/1958 (منشور بمجموعة السنة الثالثة، مكتب فني، الجزء الأول، رقم 72 ص 649)، حيث ذكرت المحكمة أنه لئن كان ما أسندته الإدارة إلى الموظف من خطأ منتفيا، إلا أن ما هو قائم في حقه من تهاون يكفي لحمل القرار على سببه الصحيح، بقطع النظر عن الوصف القانوني الذي أورده القرار للواقعة التي استند إليها.
وراجع كذلك حكم محكمة القضاء الإداري في الدعوى رقم 1023 لسنة 5ق بجلسة 26/3/1953 (س 7/2، رقم 447 ص766) حيث ذكرت المحكمة أن القاعدة أنه إذا أمكن حمل القرار الإداري على وقائع كشفت عنها أوراق الدعوى غير تلك التي على أساسها صدر، كفى ذلك لصحته.
Cookie | Duration | Description |
---|---|---|
cookielawinfo-checkbox-analytics | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Analytics". |
cookielawinfo-checkbox-functional | 11 months | The cookie is set by GDPR cookie consent to record the user consent for the cookies in the category "Functional". |
cookielawinfo-checkbox-necessary | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookies is used to store the user consent for the cookies in the category "Necessary". |
cookielawinfo-checkbox-others | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Other. |
cookielawinfo-checkbox-performance | 11 months | This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Performance". |
viewed_cookie_policy | 11 months | The cookie is set by the GDPR Cookie Consent plugin and is used to store whether or not user has consented to the use of cookies. It does not store any personal data. |